قراءة في حركات الكويت الإسلامية (4)

نشر في 28-09-2021
آخر تحديث 28-09-2021 | 00:09
 خليل علي حيدر بالرغم من الانتشار الواسع للحركة القومية في الكويت خلال الخمسينيات، فإنها عجزت عن استيعاب كل الشرائح الجديدة من المتعلمين والشباب والمتأثرين بالتطورات السياسية، وظل الكثير معزولين، ممن آثروا التوجه الإسلامي والقيم المحافظة وراودتهم مخاوف من التغير الفكري والاجتماعي الذي كان يعصف بقوة وسرعة بالمجتمع الكويتي.

يقول الأستاذ عبدالعزيز حسين في كتابه المعروف "المجتمع العربي بالكويت" عن تحولات المجتمع الكويتي خلال الخمسينيات وضغوطاتها: "لقد اهتزت أسس المجتمع القديم وانهار بعضها، واضطربت القيم الاجتماعية التي كانت لها سيادة على المجتمع الكويتي القديم اضطرابا شديدا، وأخذت التقاليد المرعية تتضاءل وتفقد تدريجياً عناصر وجودها وقدرتها على الثبات والاستمرار كما هي دون تبديل، فقد اختلفت أساليب الحياة وانتشر التعليم الحديث واتصل الناس بالعالم الخارجي اتصالاً شديداً بوسائل العلم الحديث، وسادت ثقافة جديدة خلال ذلك ليس لها حدود أو حولها قيود، وجاء إلى الكويت فئات كثيرة من الناس تحمل كل فئة منها عاداتها وثقافتها وأسلوبها الخاص في الحياة، فأدلت بدلوها في ميدان التطور الآخذ طريقه بالكويت، وأخذت كلها تتفاعل تفاعلا شديداً"

ويضيف: "فبالكويت من يلبس الملابس الإفرنجية التي تفرضها الحكومة في مدارسها ومن يحتفظ بالزي العربي الكامل من عباءة وعقال وكوفية، ومن يكتفي بالجلباب والكوفية، وهناك من يفضل استعمال أصابعه في الطعام ومن يأنف من ذلك مستعملا الملعقة والشوكة والسكين. ومن يفضل الجلوس على الكراسي ومن يرى المحافظة على الطريقة البدوية في التربع على البساط رغم أنه يسكن فيلا حديثة مكيفة الهواء".

وهكذا، يقول المستشار بديوان صاحب السمو الأمير خلال الفترة 1985- 1996 عبدالعزيز حسين، متحدثاً عن تفاصيل أخرى من التغير الاجتماعي الزاحف: "صار التنافر في العادات والتقاليد واضحاً، وصار فريق من الناس بعد أن فقدوا تقاليدهم القديمة يطبقون تقاليد جديدة ليس لها أساس من واقع الكويت متأثرين بتقاليد البلاد الأخرى، حائرين بين ما يأخذون وما يتركون".

(محاضرات عن المجتمع العربي بالكويت، عبدالعزيز حسين، الكويت، 1994، ص 100-101)

تحتاج الحياة السياسية في الكويت ما بين 1945- 1990 وتياراتها وصراعاتها الى دراسة لا مجال لها هنا، ويمكن القول في عجالة إن التيار القومي كان جارفاً في "دول الشام الأربع"، سورية، فلسطين، لبنان، الأردن، وليس بالقوة والشمول في دول أخرى، ففي مصر تنامت "جماعة الإخوان المسلمين" بعد تأسيسها حوالي عام 1928، وفي العراق انتشرت الدعوة كذلك، وكان هذا الانتشار في البلدين لصالح نمو الإخوان في الكويت خلال الخمسينيات، الذين وجدوا الكثير من كوادر الإخوان المصرية والعراقية ذات الخبرة المتقدمة عوناً وسنداً ولما كانت المرحلة فترة صراع بين الشرق والغرب، والولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي، نالت الجماعة لأسباب داخلية ودولية كل ألوان المساندة، وهو ما كان يحدث في العديد من دول العالم الثالث بسبب الصراع الأيديولوجي والشد والجذب والخوف من الانقلابات التي كانت تتوالى في بعض الدول العربية.

يقول د. الزميع: "كان من الطبيعي أن تتضمن التطورات والتغيرات الحادثة في المجتمع الكويتي في الخمسينيات ظهور حركة إسلامية كويتية جديدة ومختلفة عن كل الأنشطة والفكر الديني التقليدي المألوفة في الكويت، فقد شعر العديد من المتحمسين الإسلاميين أن المجتمع الكويتي قد بدأ يتأثر بالأيديولوجيات المتعددة التي قد تهز وتغير طبيعته الدينية، وتفقده شخصيته المحافظة التي كانت في طور التشكل، وأكد وعزز هذا الشعور بروز الفكر القومي وأنشطته التي بدأت في اكتساب زخم في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمع بشكل عام، وقد وجد هؤلاء المتحمسون من بين الحركات الإسلامية الحديثة في العالم العربي نوعاً يمكن أن يكون بديلاً وحلا مطلوباً للدعوة والفكر الديني التقليدي في الكويت، وكان الإخوان المسلمون أكثر هذه الحركات أهمية ونفوذاً". (الحركات الإسلامية، ص80)

كانت "جمعية الإرشاد الإسلامي" الواجهة العلنية للجماعة منذ أن تأسست عام 1951، وقد اختار اسمها مفتي الكويت وقتها الشيخ "يوسف بن عيسى القناعي"، كما اتخذت الجمعية من بيت قدّمه "عبدالعزيز المطوع" بالقرب من المدرسة المباركية وسوق اللحم القديم، مقراً لها.

واختارت الجمعية "يوسف القناعي" مفتي الكويت، رئيساً فخرياً لها و"عبدالعزيز المطوع" أميناً عاماً، وضمت عضوية الجمعية، يقول د. الزميع، عدة مجموعات منها "الشباب المتأثرون بالفكر الإسلامي الحديث، وبعض الشخصيات التقليدية المحافظة". كما أصدرت الجمعية مجلة إسلامية ابتداء من عام 1953، باشرت نشر المقالات ذات التوجه العقائدي والفكري المعروف، "وبشكل عام فقد تناولت المجلة كافة الجوانب الدينية والمدنية للحياة". وافتتحت الجمعية مكتبة عامة كما قام قسم نشر الثقافة الإسلامية بالجمعية بإنشاء مكتبة لبيع الكتب والكتيبات بسعر رمزي، وبعد أن أصدرت الجمعية عشرين عدداً من المجلة، "اضطرب إصدارها نظراً للظروف التي كانت تمر بها الجمعية، حتى توقفت نهائيا في عام 1959".

ويقول الباحث إن في المكتبة العامة المركزية مجموعة غير كاملة من المجلة، كما يستقي الباحث الكثير من المعلومات هنا عن "محاضر قرارات الهيئة الإدارية لجمعية الإرشاد" ويقول إنها "وثائق اجتماعات هيئتها الإدارية وقراراتها الرسمية للفترة من 24 أغسطس 1952 إلى 13 يوليو 1955، وهي وثيقة غير منشورة حصل عليها المؤلف". (ص89). ونسأل: هل شملت جهود إعادة نشر المجلات الكويتية كذلك "مجلة الإرشاد"؟

تضمن نشاط الجمعية افتتاح فصول تعليم للجمهور ولأعضاء الجمعية، وافتتحت فصول دراسية مسائية تحت إشراف "لجنة محاربة الأمية في الجمعية وكانت للجمعية نشاطات ثقافية ومحاضرات تقوم بالإعلان عنها من خلال دعوات على شكل مطويات توزع في أنحاء البلد، ومن نشاطات الجمعية المثيرة للانتباه، "إدارتها لمحطة الإذاعة التي أسستها الدولة بناء على طلب من مدير الإذاعة، وكانت جمعية الأرشاد" مسؤولة رسمياً لمدة عام ونصف عن الإذاعة"، وكانت الجمعية توفر المادة الإذاعية يومياً بما يغطي ساعتين من البث. (ص90).

ويبدو من خلال ما يعرضه د. الزميع عن تاريخ جمعية الإرشاد أن موقف الإخوان آنذاك كان أشد تأييدا في قضية المرأة! يقول: "حاولت جمعية الإرشاد الاقتراب والمشاركة في قضية المرأة ودورها في المجتمع، والتي كان موضوعاً حساساً جدا وغريباً في ذلك الوقت، إلا إنها لم تتمكن من إحداث إضافة نوعية في هذا الموضوع الحساس، واستمرت في ترديد الرؤية الإسلامية بشأن المرأة ومكانتها، دون تقديم أي تصور عملي حول هذا الموضوع أو دعم أي نشاط نسوي خاص، كما ذهب جهدها سدى للتقدم للأمام عندما حاولت تأسيس مدرسة للبنات ذات منهج إسلامي متطور، ولم يكن النجاح حليف هذه المحاولة لعدة اسباب، ليس أقلها عدم توافر مدرسات، ولكن يبدو أن الفشل يرجع الى عوامل معينة تخص المجتمع الكويتي، من انتشار الروح التقلدية المحافظة فيه، وعدم وجود حركة نسوية قادرة على تقديم قضيتها بجدية، كما كان هناك عامل خاص يتصل بأغلبية أعضاء جمعية الإرشاد المتأثرين بالمفهوم التقليدي للمرأة، وشعورهم بأنه ليس من المفيد دعم هذه القضية أو التعجيل بعرضها على الجماهير، وأن الجمعية ليست مستعدة للإلمام بها أو تبنيها فكريا من خلال طرح قضايا من هذا القبيل". (ص90).

ومن المستبعد أن تكون مضامين الفكر النسائي للإخوان في تلك الفترة والسنوات، مختلفة عنها اليوم كثيراً، والتي لم تتيغر محتوياتها كذلك عن بداية القرن العشرين قبل قرن، غير أن مجرد اهتمام الإخوان بالمرأة في تلك المرحلة يحمل سمات ريادية، حيث كان بعض أعضاء الجمعية كما هو معروف من المعارضين للتقليديين.

ويقول د. الزميع إن جمعية الإرشاد نشطت في مجال "الكشافة وبدأت في تشكيل جماعتها الكشفية التي سجلتها لدى دائرة المعارف- أي ما يعادل وزارة التربية- المسؤولة عن هذا النشاط، ويضيف ان كشافة الجمعية "كانت واحدة من أكبر الجماعات الكشفية في الكويت".

وتذكرنا عبارة الباحث الأخيرة في وصف كشافة "جمعية الإرشاد"، بوصف كشافة الإخوان في مصر أو "الجوالة"، ففي عام 1948 "أضحت جوالة الإخوان أكبر الفرق وأعظمها نشاطاً في حركة الكشافة المصرية". (الإخوان المسلمين، د. ريتشارد ميتشل، ص 344)

ولم يكن الغرض من إنشاء فرقة الجوالة والكشافة في حركة الإخوان بمصر رياضياً بحتاً، يقول د. ميتشل، "ربما كان أهم وظيفة للجوالة هي المحافظة على النظام داخل الجمعية والدفاع عنها ضد أعدائها من الخارج، وقد أدت الكشافة دوراً هاماً خلال حفلات الملك فاروق استحق البنا الثناء عليه، إذ أدت دور "قوة من الشرطة" للمحافظة على النظام.. وظلت هذه الفرق خلال الأربعينيات حين أخذت الجمعية تنزل الى معترك السياسة في يقظة تامة تحمي مصالح الجمعية وسمعتها خصوصاً حين تحول نشاطها الى تنافس عدائي مع حزب الوفد". (ص345)

وكانت العضوية في الكشافة والجوالة بمصر في الكثير من الأحيان تمهيداً في حركة الاخوان، لعضوية "الجهاز السري"، كما كان قاتل "النقراشي باشا" عضوا في الجهاز السري متخرجا في فرق الجوالة، وكان برنامج تدريب الجوالة الديني موحياً في جوهره بالعنف، وقد بلغ عدد أعضاء قسم الجوالة عام 1948 حسب تقدير الجمعية في مصر أربعين ألفاً، ويقول د. محمود أبو السعود مترجم كتاب الإخوان في تعليق له بالهامش ص348: "إن جمال عبدالناصر طلب من الإخوان في نهاية سنة 1953 عدم ظهور الجوالة في الشوارع والأماكن العامة، ومن يومها أوقف نشاط الجوالة تفادياً للصدام مع هذه الحكومة... ثم جاءت بعد ذلك سنة 1954 بحوادثها".

وكان لجماعة الإخوان في مصر اهتمام كبير بالاجتماعات العامة والهتافات والأناشيد، وهو ما نرى نواته في إنشاء "جمعية الإرشاد الإسلامية" فرقة للإنشاد (أناشيد وطنية وإسلامية) وأخرى للتمثيل، ويضيف الباحث "لم تقتصر هذه الأنشطة على مدينة الكويت، بل وصلت الى القرى المجاورة بالاتصال بسكانها عبر تنظيم الأنشطة في المدارس المحلية". (ص91).

خليل علي حيدر

back to top