يجب الاعتراف بالأخطاء

نشر في 18-07-2021
آخر تحديث 18-07-2021 | 00:09
 د. محمد أمين الميداني يصعب أحيانا على الأفراد الاعتراف بالأخطاء، ويكون ذلك أصعب على الدول لأنه يمس تاريخها وسياساتها السابقة، ويؤثر على سياساتها ومشاريعها القادمة أيضا، ولكنه لا يقل أهمية وضرورة كحال اعتراف الأفراد، على المستوى الفردي أو الوظيفي، بما تم ارتكابه من أخطاء، وبخاصة ما أسفرت عنه هذه الأخطاء من نتائج تكون أحيانا خطيرة ومؤثرة لا على الدول التي اعترفت بأخطائها فقط، ولكن أيضا على ضحايا هذه الأخطاء وما ولدته من آثار، وما ترتب عليها من مختلف النتائج.

وسنقتصر في هذه المقالة على ذكر بعض الأخطاء التي وقعت فيها الجمهورية الفرنسية على مدى تاريخها القريب، وسنركّز على ما سببته سياسات بعض الحكومات الفرنسية في العقود الفائتة من نتائج وصلت أحيانا إلى ارتكاب إبادة جماعية!

وليسمح لي القارئ الكريم أن أقدم تعريفا للإبادة الجماعية كما نصت عليه المادة (2) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

أ- قتل أعضاء من الجماعة.

ب- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

ج- إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.

د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

هـ- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".

وتصادف في هذا الشهر ذكرى الجرائم التي ارتكبت في تسعينيات القرن الفائت في البوسنة والهرسك، وبخاصة المجزرة التي ارتكبتها القوات الصربية في مدينة (سربرنيتشا)، حيث بلغ عدد القتلى من مسلمي البوسنة والهرسك 8372 ضحية، كان من بينهم 435 طفلا، مع صعوبة التعرف على 1483 جثة، وهذا حسب آخر الإحصائيات الرسمية.

وقرأنا في مقالة لأستاذين جامعيين فرنسيين نُشرت في صحيفة (اللوموند)، بتاريخ 15/ 7/ 2021، وبعنوان: "بعد روندا، البوسنة"، الدعوة للحديث عما جرى في البوسنة والهرسك، بعد أن اتخذ الرئيس الفرنسي الحالي قرارا شجاعا بتشكيل لجنة لمراجعة ما حدث أيضا في ذلك العقد في (روندا). وقدمت هذه اللجنة، والتي ترأسها أحد المؤرخين الفرنسيين، تقريرها المؤلف من 1200 صفحة إلى الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) بتاريخ 26 مارس 2021.

ومما جاء في هذا التقرير بأن التدخل الفرنسي في (روندا)، تبعا للأحداث الدموية التي بدأت بتاريخ 7 أبريل 1994، والتي أسفرت على مدى شهور بمقتل قرابة مليون شخص من قبيلة (التوتسي) ومن الأشخاص المعتدلين من قبيلة (الهوتو) التي كانت تحكم هذا البلد الإفريقي في تلك الفترة التاريخية؛ هذا التدخل الذي تمثل بإرسال قوات تحت مسمى "عملية تركواز"، والذي جاء متأخرا، ولكنه ساهم مع ذلك بإنقاذ عدد كبير من الأشخاص ولكن لم يكن بينهم أفراد من قبيلة (التوتسي) الذين كانوا أولى ضحايا الإبادة في الأيام الأولى مما عرفته (روندا) من أحداث، مما يشير، حسب التقرير، إلى مسؤولية هذه القوات الفرنسية، هذا من ناحية المسؤولية العسكرية، أما من ناحية المسؤولية السياسية للحكومة الفرنسية آنذاك، فقد تمثل باستمرار دعم السلطات الفرنسية لنظام عنصري كان يحكم هذه البلد الإفريقي، وما عُرف عنه من فساد وعنف.

وبالعودة إلى المقالة المنشورة في الصحيفة الفرنسية، تبرز الحاجة اليوم لتكليف لجنة فرنسية ثانية بإعداد تقرير عما جرى في البوسنة والهرسك، لنتعرف على حقيقة الأحداث، وما جرى من وقائع، ولكن ما تم تأكيده في هذا المجال هو أن النية بالقيام بأعمال إبادة تأكدت من الناحية القانونية فيما يتعلق بمجزرة (سبرنيتشا)، في الوقت الذي يجب ألا ننسى فيه بأن مسؤولية ما حدث هو مسؤولية العديد من الدول والمنظمات الدولية: الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا... وأكدت من جهتها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أن جريمة الإبادة الجماعية قد ارتكبت في حق المسلمين في (سبرنيتشا)، بالإضافة إلى الأحكام التي أصدرتها منذ فترة قصيرة المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة بحق أحد أكبر المجرمين والمسؤولين عن هذه الجريمة وجرائم أخرى، وهذا برأينا خطوة مهمة وأساسية في طريق تحقيق العدالة الدولية الجنائية.

والجدير بالذكر أن هذه الأعمال الهمجية، والإبادة الجماعية التي وقعت في بلدين واحد في أوروبا (البوسنة والهرسك) والثاني في إفريقيا (روندا)، قد جرت في عهد الرئيس الفرنسي السابق (فرانسوا ميتران)، والذي تقلد الحكم لأطول فترة كأحد رؤساء الجمهورية الفرنسية حيث امتدت فترة حكمه من عام 1981 إلى عام 1995، وتوفي عام 1996، وتبرز الحاجة الآن إلى تقييم السياسيات الخارجية الفرنسية، وبخاصة تلك التي طبقت في أثناء أحداث مروعة انتهكت فيها الحقوق الأساسية للإنسان.

لا يقلل الاعتراف بالأخطاء من قيمة أو مكانة من يقوم به، بل يعززهما، ويبرز الجوانب الأخلاقية، والإنسانية، والاجتماعية لمن يقوم به أفرادا أو دولا. ولعل في اعتراف الدول بالحقب المظلمة والمشينة من تاريخها ما يساعدها على تبصر معالم سياساتها ومشاريعها المستقبلة التي يجب أن يكون احترام حياة الإنسان والحفاظ على كرامته، وبغض النظر عن أي تمييز كان، هدفها الرئيسي.

* أ. د. محمد أمين الميداني أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.

د. محمد أمين الميداني

back to top