هل نولد عنصريين؟

نشر في 03-10-2022
آخر تحديث 03-10-2022 | 00:07
 د. عبدالحميد الأنصاري هذا عنوان كتاب يحوي بحوثاً علمية متخصصة في بيولوجيا الدماغ «علم الأعصاب» يسعى إلى الإجابة عن هذا التساؤل المحير: هل العنصرية مكتسبة أم طبيعة بشرية؟ وهل العنصرية كامنة في أدمغتنا أم هي نتيجة عوامل تنشئة اجتماعية؟

هذه تساؤلات عميقة محيرة، تتطلبت إجاباتها بحوثاً مضنية عبر أكثر من قرن، فقد كان الشغل الشاغل لأنثروبولوجي أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وضع معيار دقيق فاصل بين ما هو طبيعي بيولوجي فينا وما هو ثقافي مكتسب.

خلاصة هذه الأبحاث التي أجريت على أدمغة مبحوثين أميركيين بيض وسود وملونين، أن التحيزات العنصرية متجذرة في مناطق دماغية منذ وقت مبكّر من مراحل تطورنا البشري، إلا أن الأبحاث نفسها تثبت أيضاً أن أدمغتنا مرنة وقابلة للتغيير وتعمل على تنظيم دوافعنا التلقائية وتجعلنا نتعامل مع الناس بإنصاف، بمعنى آخر: العنصرية لا تبدأ ولا تنتهي في الدماغ، بل في الخارج، في البنى والترتيبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعيد إنتاج التمايزات بين البشر. المقدمة: د.نادر كاظم.

لا يولد الإنسان عنصرياً حتى في أشد المجتمعات عنصرية «بسبب أن أدمغتنا مصممة هكذا» وليقل علماء الدماغ والأعصاب عن تصميم أدمغتنا ما يشاؤون، كل هذه الأبحاث ترصد ما يظهر على الشاشة من صور مضيئة لنشاط الدماغ عبر أجهزة «الرنين المغناطيسي والأقطاب الكهربائية» إلا أنها معرفة سطحية ظاهرية لا تمتد إلى حقيقة ما يجري في أدمغتنا «يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا» لأن حقائق الأشياء «مادية أو فكرية» محجوبة عن البشر ولا سبيل للبشر لمعرفتها «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» كون المعرفة الإنسانية تتسم بالنسبية.

نولد بذهنيات قابلة للخير والشر «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»، ثم يتولى المجتمع شحنها، تسامحاً أو تعصباً عنصرياً، تطرفاً او اعتدالاً، كراهية أو حباً.

لو كانت أدمغتنا مبرمجة بالعنصرية جينياً ما أفلح الهدي السماوي في إرساء القيم العليا في ضمائر البشر، حفظاً لوجودهم من الفناء: الحق، العدل، الخير، النزاهة، الأمانة، الصدق، الوفاء، الرحمة، الإحسان، المحبة، الاحترام... إلخ.

صحيح أن العنصرية كانت متجذرة في تركيبة المجتمعات البشرية على مر التاريخ تجاه الآخر المختلف: ديناً، مذهباً، لوناً، جنساً، عنصراً، وضعاً اجتماعياً أو ثقافياً، فرداً أو أقلية سكانية، كأمر طبيعي اعتيادي مسلم به من الجميع، لكن الديانات السماوية أفلحت في تهذب عنصرية البشر تجاه بعضهم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» فأصل التفاوت للتعارف لا الاستعلاء، لكن البشرية سرعان ما عادت إلى سابق عهدها جهالةً واستعلاءً وتعصباً عنصرياً وظلما «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً».

ما حقيقة العنصرية؟

العنصرية بكل أشكالها وألوانها نوع من تضخيم للذات: فردية أو مجتمعية، استعلاء على الآخرين، يعايرهم في أصولهم، في ألوانهم، في ملابسهم، في مأكلهم، متجذرة في المجتمعات البشرية كافة مع ملاحظة أمرين مهمين:

أولاً: أن المجتمعات في عنصريتها ليست سواء، تتفاوت في عنصريتها على درجات، هناك المجتمعات المغالية في العنصرية، وهناك مجتمعات أقل عنصرية.

ثانياً: أن المجتمعات تتفاوت في سبل وآليات معالجتها لتفشي المرض العنصري، بمقدار نضج وعيها السياسي والثقافي، وتشريعات الدولة في تجريم العنصرية، ودور النخبة الثقافية ومنظمات المجتمع المدني في مواجهتها.

لكن «عنصرية المجتمعات» تهون بالمقارنة بـ«عنصرية الدولة» المدمرة للوطن والمواطن، فعنصرية الدولة النازية «عنصرية الأصل الآري» دمرت ألمانيا وشبابها وأشعلت حرباً أودت بالملايين، وعنصرية دولة إسرائيل «العنصرية الدينية» اغتصبت وطناً وشردت أهله. والعنصرية حين تترسخ في البنية المجتمعية تصبح داءً اجتماعياً مزمناً يصعب علاجه وتتحول إلى نوع من «المناعة المرتدة» التي تفتك بكل ما هو إيجابي في الأوطان- المناعة المرتدة نوع من النشاط المفرط في جهاز المناعة يفتك بالخلايا السليمة- حينئذ يصبح الوطن مكاناً كئيباً، محبطاً للمواهب، خانقاً للإبداعات، قامعاً للمبادرات الفردية، طارداً لأبنائه. أصل العنصرية «إبليس» حين تحجج بنقاء أصله، فعصى وأصبح ملعوناً ليوم الدين.

*كاتب قطري

د. عبدالحميد الأنصاري

back to top