مستقبل أوروبا سمته التغيير

نشر في 24-05-2022
آخر تحديث 24-05-2022 | 00:07
 د. بلال عقل الصنديد تساءلت في مقال سابق عن مستقبل أوروبا على وقع إرباك حلف شمال الأطلسي في مقاربته للحرب الروسية على أوكرانيا، وفي ضوء دعوة الرئيس الفرنسي لتأسيس «مجموعة سياسية أوروبية» تختلف عن الاتحاد الأوروبي وتسمح آلياتها بانضمام سهل لأوكرانيا وغيرها من الدول الراغبة!

لكن الحديث عن «مستقبل أوروبا» لا ينحصر في هذه الزاوية، حيث يقتضي الأمر إلقاء الضوء أكثر على رمزية وأهمية المؤتمر المنعقد في التاسع من هذا الشهر في مدينة ستراسبورغ الفرنسية تحت العنوان نفسه، والذي ناقشت فيه الدول الأوروبية بعض المقترحات التي تستند إلى توصيات قدمها مواطنو الاتحاد الأوروبي عبر منصة رقمية وضعت لهذا الغرض.

فالمتتبع للتصريحات والخطابات التي أطلقت في المؤتمر وعلى هامشه، يجد أن اختلاف وجهات النظر بين الدول الأوروبية حول دور وفعالية الاتحاد الأوروبي طفت الى السطح، ولكن بطريقة يمكن أن يقال عنها إيجابية، إذ ترجمت بالترويج لفكرة عدم الخوف من التغيير واعتباره ضرورة حتمية. وفي هذا السياق، يصب تصريح «روبرتا ميتسولا» رئيسة البرلمان الأوروبي التي اعتبرت أن «في هذه اللحظة الحاسمة من التكامل الأوروبي لا ينبغي أن يكون أي اقتراح للتغيير محظورا... ويجب ألا نخشى إطلاق العنان لقوة أوروبا لتغيير حياة الناس للأفضل»، وقد لاقاها في ذلك عدد من القادة والمسؤولين وفي طليعتهم الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الذي علّق قائلاً «خلال الأزمات التي مررنا بها بشكل جماعي في السنوات الأخيرة، تغيرت أوروبا... لذا، يجب أن نواصل هذا التطور ونضمن أن يرقى الاتحاد إلى التطلعات والتوقعات التي عبر عنها المواطنون».

وكأن أوروبا العجوز واتحادها المثقل بالرتابة كانا بحاجة لصدمة النزاع الروسي-الأوكراني للالتفات الى أهمية القفز فوق التردد وربما الضعف في الموقف الأوروبي حيال القضايا الداخلية والمشتركة والعالمية على حد سواء، في ظل تفرّد الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم انطلاقاً من مصالحها. وقد أشار الى ذلك أحد المسؤولين البلجيكيين السابقين، حيث لفت الى «أن السلطات الأميركية قررت، ومنذ 8 مارس، حظراً على المنتوجات النفطية الروسية، في حين لم يتخذ الاتحاد الأوروبي قرار الحظر هذا إلا في 4 مايو»!

تمحور التقرير الختامي لمؤتمر» مستقبل أوروربا» حول عدد من المقترحات والأهداف المحددة والمرتبطة بجملة من القضايا ذات الأبعاد الدولية والتأثير الأوروربي الوطني والمشترك، وعلى رأسها: تغير المناخ والبيئة، والصحة، والاقتصاد والعدالة الاجتماعية، وموقع الاتحاد الأوروبي في العالم، والقيم والحقوق وسيادة القانون والأمن، والتحول الرقمي، والديموقراطية الأوروبية، والهجرة، والتربية والثقافة والشباب والرياضة، وقد أوصى المؤتمر في ختام فعالياته بضرورة إصلاح هيئات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، فالتغيير- وإن طال أمده- صار شبه حتمي في أوروبا بعد أن كان مجرد أمل أو مناشدة.

المعضلة تكمن في أن التغيير الآتي غير محدد الاتجاه، فالإيجابية التي يطمح إليها البعض قد تغير أو تبطئ مسارها نزعة القومية والعنصرية التي تجتاح المجتمعات الأوروبية، والاندفاعة التي تميز بعض الطروحات الأوروبية قد يحول دون تحقيق أهدافها التمرس الأميركي في القضايا العالمية، كما أن طموحات الشباب الأوروبيين المنغمسين في العولمة قد يحبطهم بطء آليات التغيير.

فهل ستستطيع أوروبا التمسك بقيمها الديموقراطية مع تصاعد موجات الهجرة التي يخشى معها أن تغيّر تركيبتها السكانية والاجتماعية؟ وهل يمكن للدول الأوروبية الاستغناء عن النفط الروسي والشرق الأوسطي في ظل الأزمة الاقتصادية التي تطول العالم؟ هل يمكن للصناعة الأوروبية أن تجاري في الوقت نفسه متطلبات السوق والتزامات البيئة النظيفة؟ وهل بمقدور الدول الأوروبية أن تجعل من مسألة التحول الرقمي واقعاً لا رجعة فيه؟ وهل ستستطيع هيئات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي أن تجدد بنيتها وتطور خطابها وتحدّث آلياتها لتفرض رأيها الموحد في لعبة صراع الأقطاب العالمية؟

هذه الأسئلة وغيرها، مرهونة إجابتها بالتطورات التي ستشهدها أوروبا والعالم في المستقبل القريب، بداية من مصير روسيا ما بعد حربها على أوكرانيا، مروراً بمصير حلف شمال الأطلسي على أثر الموقف السلبي لتركيا- العضو في الحلف- من انضمام فنلندا والسويد، الأمر الذي بنظر «الكرملين» سيمثل بالتأكيد تهديدا لروسيا النووية، وليس انتهاء بالقلق الأوروبي المتزايد من السياسة الأميركية في القارة العجوز والعالم.

تتفق النخب الفكرية والسياسية على أنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن تبدل الرئاسة في واشنطن لا يعني إعادة موضعة جذرية للاستراتيجية الأساسية، وفي السياق يصف البعض القلق الأوروبي المتزايد من العم سام وارتفاع نبرة الصوت السيادي المطالب بالاعتماد على الذات بأنه «نُضج لا إرادي» بلوره انحسار إمكانية الاعتماد على الحليف الأميركي غير الآبه أو غير المصدق لتوسع الصدع بين ضفتي الأطلسي.

ويبقى لحركة التجارة العالمية ومحاولة هيمنة التنين الأصفر عليها، القول الحاسم في صنع مستقبل أوروربا التي يؤرقها الصراع الداخلي بين الانضام الى الركب الصيني التي تسجل نسب نمو ملحوظة في أصعب الظروف، بمقابل عدم التنكر لقيمها التي تربطها- ولو نظرياً- بالغرب الأميركي.

* كاتب ومستشار قانوني.

● د. بلال عقل الصنديد

back to top