مظفر النواب... أربعة عقود من المنفى

نشر في 23-05-2022
آخر تحديث 23-05-2022 | 00:07
 خولة مطر أولى سنوات الانفتاح أو الخروج من قفص الواقع إلى العالم الواسع، هناك وفي تلك اللحظة حيث تفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها مرحبة بالقادمين إلى عالم آخر مليء بالحس الثوري والفني والموسيقي والثقافي حتى يغرقوا، هم القادمون من شوارع ضيقة هادئة، هناك على أطراف الكون العربي الواسع بمدنه الكبرى وكتّابه ومثقفيه ومطابعه وشعرائه، فاتحين أعينهم وقلوبهم بكثير من الانبهار، كانت "الريل وحمد" أول سباحة لهم في شعر مظفر النواب ذاك القادم من العراق وحزبه الشيوعي، هم الذين قيل لهم إن الشيوعيين كفرة وملحدون، وألبسهم كثيرون كل الموبقات، وما حملته اللغة من مفردات معادية للبشرية والبشر!!

بحثوا كثيرا عن دواوينه، الممنوع قراءته أو ذكر اسم، ربما في كل مدن العربان، لما واجههم فيه من عداء مرة لضعفهم ومرات لظلمهم وطغيانهم وكرههم لأي فكرة محلقة خارج قفص العقول المتحجرة، لكنها بيروت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات حيث لا حواجز للأفكار ولا سجون للكتب ولا معتقلات للشعراء والمثقفين والسياسيين والمعارضين، منهم شيوعيون وقوميون وبعثيون واشتراكيون وتروتسكيون و... و... وصعب على الأدمغة الصغيرة استيعاب المعارك التي كانت تدور بينهم علانية، لا بينهم وبين الأمن والسلطات كما اعتادوا هناك.

تعرفوا على مظفر النواب ونبشوا دواوينه وتبادلوها وانغمسوا في الاستماع لأشرطة شعره حتى كان ذاك اليوم الذي قرؤوا الإعلان عن أمسية شعرية له في جامعتهم العريقة، لم يصدقوا أن الجامعات تستضيف خريجي السجون والمعتقلات والمنافي!! مظفر الذي سجن لأكثر من مرة وهرب من الأمن مرات ومن السجن أيضا ثم عاش أربعة عقود في المنافي، مرة داخل الوطن ومرات خارجه حتى لفظ نفسه الأخير في إحدى المدن البعيدة عن بغداد والبصرة واستعدوا لتلك الأمسية بكثير من التحضير والقراءات والنقاشات حتى جاء ذاك المساء بنسمة عليلة. اكتشفوا حينها أن مظفر لم يكتب فقط "القدس عروس عروبتكم" و"الريل وحمد" بل هناك كثير من العشق والغزل، أما مفاجأتهم الكبرى فكانت في تلك القدرات المتنوعة له من تمثيل وقدرة على الإلقاء وهو يغني قصائده بكثير من إبداع المالك لأكثر من موهبة، لم تجرح آذانهم بعض شتائمه في أبيات شعره، فهو الذي أدخل الشتيمة إلى الشعر دون أن ينزل من مرتبته في مكانه الإبداعي، ففيه شتم للذات العربية المتهالكة، وهو في ذلك كان يعبر عن الظلم والقهر الذي يتعرض له الكادحون من فلاحين وعمال دون أن يدرك في البدء أنهم بعيدون عن قراءة الشعر، حتى إن حول قصائده من الدواوين إلى أشرطة الكاسيت، وعندما تحولت القصيدة إلى صوت وتمثيل انتشرت بينهم بل تعدتهم لتصبح وجبة يومية لكل عربي متذوق.

أصبحت قصائده خبز الثائرين والمتذوقين، وصار هو حديث المجالس الشعرية والأدبية عندما طاردته الأجهزة الأمنية على خلفية الصراعات بين الشيوعيين والنظام الحاكم في بغداد آنذاك، فهرب للأهواز وقضى فيها نحو العام، وهناك إشارت لتلك الرحلة في قصائده ومنها "بكائية على صدر الوطن" حيث قال:

قاومت الاستعمار فشردني وطني

غامت عيناي من التعذيب

رأيت النخلة.. ذات النخلة

والنهر المتشدق بالله على الأهواز

وأصبح شط العرب الأن قريبا مني

والله كذلك كان هنا

واحتشد الفلاحون علي

ورغم أن بداياته كانت بالعامية، وهي التي تحولت مع الوقت إلى أغنيات شعبية، فإن كثيراً من شعره المعروف عالميا هو المكتوب بالفصحى لصعوبة فهم العامية العراقية على كثير من العرب، رغم أن عشاق شعر مظفر النواب يمتدون على أضلع الأوطان كلها، وما كان يجعله الأقرب للكثيرين هو تلك القدرة على الحديث عن الوجع والتشرد، وفي قصائد أخرى كثير من الحب والغزل وتوصيفات مشابهة للتراث العربي مثل وصف الخمر وجسد المرأة وعينيها و... و....

يبقى مظفر خاصاً جداً حتى بين شعراء زمنه ربما لتلك التركيبة النادرة من تعدد المواهب والقدرات والتجارب، وربما أيضا لأنه لم ينس قضيته الأولى أبدا ولم يتهاون ولم يتراجع، بل بقي أميناً على تلك القناعات والمبادئ حتى مارس كل المهن وعبر البحور والمحيطات والأنهار وسكن بلدات ومدنا عدة، هو الذي تفرد حتى في طريقة هربه مع مجموعة من "رفاقه" من سجن الحلة المركزي عندما حفروا نفقاً بالملاعق والسكاكين الصغيرة بطول 25 مترا وعرض وارتفاع 75 سنتيمترا .

كان الهروب شبيهاً بتلك التي يراها المرء في الأفلام فقط ولا يتصور أنها تحصل في الواقع، وإلا فكيف يستطيع ثلاثة وأربعين معتقلاً من الهرب ويمرون جميعا من أمام حارس المرآب المجاور للسجن ويقفزون فوق السياج، ثم يختفون بين شجر البستان المجاور حتى أصيب الحارس بكثير من الذهول والاستغراب، وذهب ليخبر شرطي المرور القريب من المرآب الذي رأى هو الآخر ما تبقى من المعتقلين الخارجين من ذاك السجن الشديد الحراسة وهم يركضون باتجاهات مختلفة نافضين التراب عنهم!!

عاش مظفر كثيراً من الشتاب وحالة من الهروب الدائمة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة خارج العراق الذي عشقه والذي وصف تفاصيل حيات ناسه عبر قصائده العامية منها على وجه الخصوص... ربما رحل هو ولكن تبقى قصائده حية ترزق وكثير من الشباب يردد "الريل وحمد" أو"القدس عروس عروبتكم".

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر

back to top