شيرين صوتك أنار الكون ودمك سقى الأرض الطاهرة*

نشر في 16-05-2022
آخر تحديث 16-05-2022 | 00:08
 خولة مطر لم يكن بالإمكان أن ترحل شيرين كما يرحل الآخرون، بعض قماش وكفن، لم يكن بالإمكان أن تبعد عن تراب أرضها الطاهرة التي سقيت بكثير من دماء أبنائها، نساء ورجالا شيوخا وأطفالا، وكثيرٌ من الشباب يحملون أكفانهم على أكفهم وماضون في مواكب مهيبة إلى جنات الخلد.

هي التي ظلت تردد أنها نجت من موتهم مرات ومرات وحمتها السماء والملائكة من رصاصهم الذي يقنص كل قلب ينبض بحب تلك الأرض الطاهرة، شيرين التي دعست فوق كل شبر من أرض فلسطين وكل زاوية وكل حجر عرفها جيداً وسمع صوتها الباكي على أرض اغتُصبت وعلى أرواح أبت إلا أن تفدي تلك الأرض في أفواج، بل ربما تسابق على من يرحل من أجل وطن لا يشبه أي وطن آخر بل ربما هو أوطان في وطن.

شيرين وأنت مسجاة تحت تلك الشجرة وفوق تراب تلك الأرض التي لم ترحلي إلا وأنت تقبلينها كما اعتدنا أن نراهم جميعا، جاء صوتك في أحاديثنا ولقاءاتنا المتكررة كلما كنت في القاهرة أو مررت بها، كثير من كلماتك بقيت معي وضحكتك التي وقفت تتحدى رصاصهم وقناصتهم ودباباتهم ومستوطنيهم وكل حقدهم، مرت صور من ذكريات كثيرة، ومضى وقت بقيتِ أنت كما رددتِ في أحاديثنا «لا أستطيع أن أغادر فلسطين التي تسكنني ولا أبعد عنها حتى في زياراتي إلا القصيرة منها». تعود للقدس ورام الله وجنين وبيت لحم وكل شبر وشجرة زيتون وزعتر.

كم أبكانا استشهادك برصاصة قناصهم الحاقد تلك التي استقرت في رأسك الذي طالما أثار غضبهم وحقدهم عليك وعلى كثير من زميلاتك وزملائك من بدء معك كجيفارا ومن تمنى أن يلتحق بركبكم فيتعلم منك ذاك العشق للأرض الذي يدفعك لتكوني أول الواقفين على رأس أي حدث وأول المتقدمين الصفوف لنشر الصورة كما هي دون رتوش ولا تزيين ولا مبالغة وبمهنية لا يعرفها من يدعون أنهم علمونا الصحافة الحقة!!

شيرين عرفتِ ذاك الدرب للنضال ومشيتيه محتمية بإيمان وإصرار وقناعة وعشق لفلسطين الوطن والقضية، جاءت السترات الصحافية والخوذ الواقية بعد ذاك وبعد أحداث وأحداث كنت تخافين عليها أكثر من خوفك على نفسك وحياتك ووقفتِ تنقلين الصورة كما هي، بينما يعملون هم بكل تقنياتهم المتطورة لتزوير الحقائق كما كل المغتصبين أو من بقي منهم، أليسوا آخر أشكال الاحتلال المتبقية على وجه الأرض؟

زاد غضبهم وحقدهم عليك بعد أن تصوروا أن امتلاكهم وسيطرتهم على كل المتاح من وسائل للتواصل ونقل الخبر أينما كان من أول نقطة حتى آخرها على وجه البسيطة... كنا نتحدث عن مدى رعبهم وهم خلف عدادهم وعدتهم من صوتك والصورة التي تنقلين مهما عملوا وجهدوا لإخفائها وتشويهها. كلما حولوا الضحية الى مجرم أو إرهابي، وقفتِ أنت خلف عدسة كاميرا وفي يدك الطاهرة ميكروفون ترسمين الصورة عبر نبرة صوتك الدافئة وتدحرين رواياتهم وكذبهم المستمر بكثير من الهدوء، ربما هو هدوء المؤمنة بقضيتها ووطنها المحتل.

جلسات القاهرة السريعة تعود لتذكرني بأحاديثنا عن عشقك للأرض والمهنة، فلم تكوني يوما صحافية عابرة ككل العابرات والعابرين وهم كثر، المهنية التي نقلتها هي حرفية المؤمن لا تلك التي علمونا إياها في جامعاتهم ومحاضراتهم المتكررة عن الموضوعية وحرية التعبير والدفاع عن حقوق الإنسان.. فقد فضحتِ بتغطياتك مدى كذبهم ونفاقهم وازدواجية معاييرهم.

شيرين ستبكيك الأرض شبرا شبرا من النهر الى البحر وستبقى العصافير فوق شجر فلسطين تنتظر قدومك لتحرسك كما كانت دوما ويبقى صوتك الأقرب والأكثر وضوحا وإصرارا وصمودا وحضورا فيما يبقى المطبلون والمطبعون على هوامش الحياة وفي مزابل التاريخ. كم جميل أن توحدينا في غيابك كما في حضورك ونقلك للأحداث.. ارقدي بهناء هناك بين الملائكة التي أنت أقرب لها من بشر مغمسين بالحقد والجهل والضغينة.

ارقدي شيرين الشهيدة حاملة ابتسامتك وهدوئك وانعمي فقد كنت خير امرأة وإنسانة وصحافية وفلسطينية مخلصة لقدسها وأرضها... ارقدي وأنت الحاضرة دوما بل الأكثر حضوراً من أي منهم ومنا.

أقبل جبينك وأتمنى أن تغفري لي وتعذريني لأني لم أودعك كما يليق بالشهيدات والعاشقات لأوطانهن... لفلسطين.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.

د. خولة مطر

back to top