إعادة كتابة العقد الاجتماعي (6) العصبيات العربية

نشر في 27-12-2021
آخر تحديث 27-12-2021 | 00:10
 د. عبدالحميد الأنصاري تكلمت فيما سبق عن ضرورة إعادة النظر في المحور الديني، أما المحور الثاني فهو عن ضرورة إعادة النظر في المحور المدني وحاصله، أن الدول العربية استقلت عن الاستعمار وأصبحت تحت حكم أبنائها الحكام الوطنيين وأخذت بمظاهر الدولة العصرية من مؤسسات حديثة ودساتير وتشريعات وخطط للتنمية والتحديث، لكنها ومنذ الاستقلال وإلى اليوم وعبر هذه العقود الطويلة لم تستطع ترسيخ جذورها كدولة وطنية في التربة المجتمعية.

لم تنجح الدولة الوطنية العربية في تفعيل مفهوم المواطنة وقيم دولة القانون مثل: المساواة والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية والحريات العامة واستقلال القضاء والإعلام الحر، وترجمتها على أرض الواقع المجتمعي رغم احتفاء دساتيرها وتشريعاتها بها، وذلك لتجذر البنية التحتية للعصبية في التركيبة المجتمعية وثقافتها الاجتماعية، نرى تجلياتها: في العائلة، في المدرسة، في الجامعة، في الأحزاب والتنظيمات السياسية والدينية، في الخطاب الثقافي العام، في الخطاب الإعلامي، وحتى بعض الخطاب الديني، في الأناشيد والقصائد والأغاني، في الفنون، في العادات والتقاليد، في الأمثال العامية، في الأزياء والملابس، في الولاء للزعيم الواحد.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل إن تشريعات بعض دولنا تغذي الولاء العصبوي وتعلو به فوق الولاء الوطني، إذ تقنن التفرقة بين المواطنين ونحن في القرن الحادي والعشرين، فتجعل البعض مواطنين من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية وحتى الثالثة، والعجيب أن هؤلاء المواطنين المصطفين الأخيار يعتقدون في قرارة أنفسهم بأحقيتهم بالمغانم والامتيازات وبالحقوق الخاصة، كونهم ينتمون إلى عرق معين أو طائفة معينة أو طبقة اجتماعية معينة أو أسر كبيرة ذات قرب ونفوذ، بل منهم من يرى نفسه فوق القانون! أين كل هؤلاء من قوله عليه الصلاة والسلام: "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".

العصبيات العربية متعددة: القبلية، العرقية، المذهبية، الطائفية، يجمعها شعار واحد "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وبيت الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة:

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

التعصب آفة البشرية الكبرى، دينياً أو طائفياً أو عرقياً قبليا أو دنيوياً علمانياً كعبادة العقل في الثورة الفرنسية أو عقيدة وضعية كعبادة الزعيم في الاتحاد السوفياتي أو ديمقراطيا في الانحياز للطبقة الرأسمالية أو فلسفياً كما في دولة أفلاطون الشمولية والمدينة الفاضلة لتلميذه المعلم الثاني الفارابي، وكانت أوروبا محكومة بالمنطق العصبوي العرقي والديني قروناً متطاولة، وولد حروباً طاحنة أودت بالملايين، لكن الغربيين نجحوا في استخلاص الدروس ووصلوا إلى مرحلة من النضج السياسي مكنهم من بناء علاقات قوية قائمة على التعاون والتكامل، وحل المشاكل السياسية والاقتصادية الناجمة بين دولهم بحكم المنافسة الاقتصادية الرأسمالية بالحوار والتفاهم، قادة الغرب يتنافسون سياسياً وشعبياً ويختلفون إلى حد الصراع الاقتصادي فيما بينهم، لكن هذا التنافس الاقتصادي والاختلاف السياسي لا انعكاس سلبي لهما على مصالح شعوبهم ولا على حقوقهم في التنقل والعمل والتملك والتجارة والاستثمار، بخلاف الحاصل عندنا عربياً وخليجياً، ما إن يختلف قادة دولتين سياسيا حتى يبدأ التراشق الإعلامي وتقام الحواجز بينهما وتتضرر مصالح الشعبين.

منذ العصر الجاهلي وعبر التاريخ العربي والإسلامي كانت العقلية القبلية هي الحاكمة للمجتمعات العربية، وعندما جاء الإسلام كان من أوائل مبادئه تحويل القبلية إلى طاقة إيجابية نافعة، ونجح الرسول عليه الصلاة والسلام إبان فترة حياته في توظيف الطاقة القبلية في خدمة الدعوة والدولة الإسلامية الناشئة، لكن بعد وفاته عاد الغالبية إلى نزعاتهم التعصبية الكامنة في نفوسهم فكانت الفتنة الكبرى وما تلاها من أحداث دامية فرقت المسلمين شيعاً متخاصمة.

وفيما يتعلق ببيتنا الخليجي الذي نعتز به ويسعى الكثير من أبنائه المخلصين إلى دعمه وصيانته وتطويره لمزيد من التقارب والتماسك والتعاون وتعزير المشترك الخليجي فإن العقلية القبلية ونزاعات الماضي مازالتا مؤثرتين سلبا على علاقات بعض دوله ومجتمعاته رغم أن قادة الخليج استطاعوا، بلطف من الله وعونه، أن يتجاوزوا في قمتهم الأخيرة قمة الرياض كثيراً من مخلفات عقلية التخاصم،،، يتبع.

* كاتب قطري

● د. عبدالحميد الأنصاري

back to top