حين يغيب الفرح

نشر في 30-11-2021
آخر تحديث 30-11-2021 | 00:00
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
إن الوجود الذي لا ينتج أسئلة هو وجود بلا رئة، بلا عينين وبلا لسان وشفتين، إنه وجود خديج يحتاج إلى مراجعة مستمرة ليبعث بعثاً جديداً.

منذ عرفته، عرفت فيه ذلك التوقد والتحفز والإصرار نحو الإنجاز، وعدم الركون أو الاستكانة، جذوة المعرفة، ومشعل الإبداع كلاهما يدفعانه إلى كل جديد من الأفكار والرؤى، وأحسب أن متابعته المستمرة لكل جديد في مجاله العلمي، والوقوف على أهم النظريات الحديثة في أدب الطفل كان حاديا وهاديا له نحو التأليف والإبداع والإنجاز.

أحب عليٌّ الشعرَ، بينما الشعر لم يبادله هذا الحب، فجفاه منذ كنا طلبة في الجامعة... وما زلت أذكر قصيدته الغزلية التي نشرها في جريدة الرأي العام حينها، والتي بات يخجل منها الآن!!! تعالي فتنتي الآنا نرش العطر ألوانا

ويجدد الدكتور عليٌّ عاشور الجعفر علاقته بالشعر مرة أخرى في كتابه الذي صدر حديثاً "حين يغيب الحرف" (2022)، إذ يأتينا بفكرة متخيلة لا تخلو من الدهشة ولا تتنصل من الغرابة، محملة بالأسئلة دون الأجوبة، تهيمن السريالية على هذا الإصدار سواء من حيث الفكرة أو النص أو الخط أو التصميم، حيث يقول: هل تخيلت في يوم أن يغيب الحرف؟

نعم. هو الخيال الخلّاق الذي جعله يتخيل غياب بعض الحروف، وما ستحدثه من إرباك في الأبجدية، وخلل في معاجم العربية، إذ تصبح اللغة من ذوي الاحتياجات الخاصة، خديجة ألفاظها كسيرة معانيها...

إن "فرح" مقلوب كلمة "حرف"، فما العلاقة بين الحرف والفرح؟

إن حضور الحرف في اللغة منطوقاً أو مرسوماً هو حضور لا يخلو من الفرح، إذ تتضافر الحروف وتتجدد الدلالات والمعاني. هذا ولا بد من الالتفات في هذا المقام لما في كلمة "حرف" من معنى الحرفة والتحريف، وما يحملان من دلالات تحتاج إلى تأمل وتفكر.

بدأ عليٌّ كتابة النص أكثر من مرة حتى استوى على عوده، ثم حمل نصه إلى الخطاط جاسم المعراج المتبتل في محراب الحرف وتشكلاته، حيث استمع وأنصت للفكرة حتى تشبع بها إيماناً، فراح يحرك سن القلم، ويرسم خطوطاً تجرد المجسد تارة، وتجسد المجرد تارة أخرى، بحركة تبادلية لا تخلو من رؤية فنية رفيعة، وعلم في الخطوط عكف على دراسته والانغماس في دواته، والامتداد في مداده حتى جاء خلقاً من بعد خلق.

أهدى عليٌّ الكتاب لشيخه وأستاذه خالد سعود الزيد – رحمه الله – قائلاً: "إلى الذي أشعل فيَّ جذوة حروف المعاني لتغدو في الوجود مباني، إلى خالد سعود الزيد الكلمة الغائبة الحاضرة". إهداء يتسق مع الكتاب وبنيته، فغياب الحرف يوازي غياب الزيد بجسده، وحضوره بروحه ومعناه، وكذلك الحرف حين غاب اعتل الخطاب، فبات الحرف بغيابه كلمة غائبة حاضرة.

يبدأ النص بتساؤل:

حين يغيب الحرف،

ويغادر مجتمع الكلمة،

ماذا يجري؟

وكيف يصير الحال؟

الحرف هو بعض الكلم، في غيابه يختل مجتمع الكلمة؛ بل تفقد الكلمة معناها مقابل ما فقدته من مبناها.

لم تغب جميع حروف العربية وإنما غابت حروف كانت تشكل في غيابها عبارة: "أبحث عن روض"، إذ يمكن قراءتها باعتبار ابحث فعل أمر، أو تقرأ أبحثُ عن روض بضمير المتكلم.

أما ثالثة الأثافي في هذا العمل المتميز نصاً وخطاً فهو التصميم؛ حيث قام محمد شرف بتجسير العلاقة بين النص والخط عبر تصميم مميز في الشكل واللون والإخراج بما يفضي إلى دلالات متعددة لا تخلو من التلميح تارة، ومن التصريح تارة أخرى، في تصدية بين النص وخطوطه التشكيلية، وما تحمله الفراغات من مساحة للحرية التي ينشدها النص في خاتمته:

الحرية ... الحرية

أغنية الروح الأبدية

فيها وبها يحيا الإنسان.

إن هذا العمل وما يحمله من دلالات يفتح أفقاً للأسئلة أكثر مما يمنحنا أجوبة معلبة، عمل فني تضافرت فيه ثلاثية إبداعية: الكلمة، الخط، التصميم، لتشعل جذوة التفكر والتأمل والمعرفة في وجودنا.

د. عباس يوسف الحداد

back to top