إعادة كتابة العقد الاجتماعي (2)

نشر في 29-11-2021
آخر تحديث 29-11-2021 | 00:07
 د. عبدالحميد الأنصاري ذكرت أن أزمنة حكم الثوار العسكريين جاءت ردة فعل على أزمنة حكم الملوك، وأسقطت العقد الاجتماعي "المفترض" بين الحاكم والمحكوم، رفعوا شعارات وطنية وقومية، ووعدوا الجماهير بالمن والسلوى وفشلوا. كانت حقبة بائسة تم فيها تخريب نفسية الإنسان العربي وإذلاله وإهدار كرامته، كانوا حكاماً ظلمة فاسدين بددوا الموارد الوطنية وأفقروا البلاد وتركوها خراباً يباباً، حتى إذا وصلت الأوضاع إلى الحضيض، وانسدت الآفاق، هبت الجماهير ثائرة، فأزالت حواجز الخوف والرهبة، وتحدت السلطة، وأسقطت حكم العسكر، وانتهزتها تنظيمات عقدية كانت ترفع شعار "الإسلام هو الحل" استولت على السلطة، ووعدت بإدارة الشأن العام وفق عقد اجتماعي جديد.

لكن الحكام العقائديين لم يكونوا بأفضل من العسكر، فالأوضاع ازدادت سوءاً، والأوطان أصبحت مهددة بالضياع، وهويتها الوطنية والقومية باتت معرضة للزوال، كانت صدمة الجماهير في الحكام العقائديين كبيرة، فقدت المجتمعات أمنها واستقرارها، وأصبح وجودها مهدداً بالفناء لحساب ولاءات عابرة للوطن والهوية القومية، فهبت هذه الشعوب مرة أخرى في أكبر خروج بشري عرفه التاريخ الإنساني لإنقاذ أوطانها واستردادها، عبر عنها حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، بقوله: لولا وقفة مصر وخروج الشباب في 30 يونيو، ومساندة الجيش والشرطة لزال العرب من الوجود.

علينا بعد هذه السلسلة الطويلة من التجارب الفاشلة في أنماط الحكم، جربت فيها مجتمعاتنا حكم القوميين واليساريين والإسلاميين، على امتداد 7 عقود، أن نتساءل: ما الدروس المستفادة من التجارب السياسية السابقة؟ وكيف نحقق توافقاً مجتمعياً لكتابة "عقد اجتماعي جديد" بين الشعوب العربية وأنظمتها؟ وما الأسس الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية لهذا العقد؟

أسعى في هذه السلسلة إلى الإجابة عنها عبر محورين:

المحور الديني: إخراج الدين من التوظيف السياسي لأهداف الصراع بين السلطة والمعارضة، فأنا من المؤمنين بأن الدين لا ينفصل عن الشأن العام المجتمعي، كونه لا يستغني عن "هدي" الله، في منطلقاته وأهدافه وقيمه، والدين له كلمة بل كلمات في إدارة الشأن العام والإصلاح السياسي والاجتماعي والارتقاء والسمو الأخلاقي بمجتمعاتنا العربية، ولكن ليس بالمعنى الحزبي الضيق الذي يهدف إلى فرض ما سمي "أسلمة المجتمع"، فنحن ولله الحمد مجتمعات ودول إسلامية، هوية وثقافة وتشريعاً وتقاليد وتعاليم وعبادات، ولم تغب الشريعة يوماً عن دنيا المسلمين، طبقاً للفقيه الدستوري الكبير الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، رحمه الله تعالى، حين أكد أن القوانين الوضعية مستمدة في معظمها من الفقه المالكي، كما وثقه الكتاب المرجعي المهم "المقارنات التشريعية: تطبيق القانون المدني والجنائي على مذهب الإمام مالك"، لمخلوف المنياوي 1977.

لقد آن للأحزاب السياسية الإسلامية أن تتعلم من تجاربها السياسية عبر 9 عقود كما تعلم (حزب العدالة والتنمية المغربي) كما عبر عنه عبدالإله بنكيران: إن الشعب المغربي إذ صوت لحزبه ذي المرجعية الإسلامية، فإنه لم يصوت له إلا لكونه حزباً سياسياً، منوطاً به حل مشاكلهم الاقتصادية والسياسية وصيانة حقوقهم وأمنهم، لكن الشعب لم يعط تفويضاً مطلقاً للحزب بأن يطبق فهمه على المجتمع والدولة، أو يفرض أيديولوجيته على الجماهير، فليس من حق الحزب الإسلامي المنتخب أن يفرض على المجتمع والدولة رؤيته الإسلامية، التي يختلف معها الآخرون سواء من الإسلاميين وغيرهم، لأنه لا احتكار للفهم الديني في الإسلام مثلما لا احتكار للوطنية والانتماء، احتكار الفهم الديني كاحتكار الوطنية، كارثة سياسية وسوءة أخلاقية، فلا يجوز لفصيل سياسي مهما بلغت أغلبيته أن يدعي أن فهمه للإسلام الفهم الصحيح الذي ينبغي فرضه، ذلك ادعاء ينقضه أنه لا أحد يملك الحقيقة الكاملة إلا المولى.

إن توظيف الدين في الصراع السياسي آفة مزمنة كبرى، لم نستطع تجاوزها منذ الفتنة الكبرى وإلى اليوم، السلطة تستغل الدين لتعزيز شرعيتها والجماعات الأيديولوجية المعارضة توظف الدين لتبرير خطابها التحريضي على السلطة القائمة وتهييج الجماهير ضدها بهدف إسقاطها والحلول محلها.

يتبع،،،

* كاتب قطري

● د. عبدالحميد الأنصاري

back to top