لماذا لا يأخذ مواطنو أوروبا الشرقية اللقاح؟

نشر في 18-11-2021
آخر تحديث 18-11-2021 | 00:00
تُظهر تجربة أوروبا الشرقية مع الوباء أن العديد من البلدان لم تتراجع بعد عن الانخفاض الكبير للثقة العامة الذي بدأ بعد عام 1989، وقبل اندلاع الأزمة بفترة طويلة، أصبحت هذه البلدان أرضا خصبة لحملات التضليل التي تسعى إلى تحريض الرأي العام ضد الاتحاد الأوروبي، وضد الغرب، وضد الخبراء الناجحين في بلدانهم.
 بروجيكت سنديكيت خلال الأسابيع الأخيرة، حيث أصبحت أوروبا، مرة أخرى، بؤرة عالمية لانتشار وباء كوفيد19، فسلط الارتفاع الكبير في حالات الإصابة بفيروس كورونا، وفي الحالات التي تخضع للعلاج في المستشفيات، وفي عدد الوفيات، الضوء على مجموعة من الأوروبيين، وعلى وجه التحديد، أولئك الذين ما زالوا مترددين فيما يتعلق بأخذ اللقاحات، ويتعلق الأمر هنا بمواطني أوروبا الشرقية الشيوعية سابقا، فبينما تلقى 75.6 في المئة من مواطني الاتحاد الأوروبي جرعاتهم الكاملة من التطعيم، بلغت النسبة في بلغاريا وفي رومانيا 26.2 في المئة و39.6 في المئة على التوالي، أما في بلدان أخرى خارج الاتحاد الأوروبي، فالأرقام تشير إلى ما هو أسوأ، و20.2 في المئة من سكان أوكرانيا، و36.3 في المئة من مواطني روسيا فقط هم من تلقوا جرعاتهم الكاملة من اللقاح.

ما مشكلة أوروبا الشرقية؟ إنها باختصار التضليل، فالمعلومات المضلِلة تغزو المنطقة، وهذه آثار تركة فقدان ثقة الشعب بالمؤسسات الحكومية بعد الشيوعية، فقد استحوذت نظريات المؤامرة المحمومة على هذه البلدان تماما كما استحوذ عليها فيروس كورونا.

وفي الآونة الأخيرة، لخصت طبيبة أوكرانية الوضع في بلدها في عبارة قالت فيها: "إن الروايات المغلوطة منتشرة على نطاق واسع، مما جعل الناس يؤمنون بالرقائق الدقيقة والطفرات الجينية... كما حث بعض الكهنة الأرثوذكس الناس علنا وبقوة على عدم التطعيم، وغزت الشائعات الأكثر سخافة الشبكات الاجتماعية، وتعلم الأوكرانيون ألا يثقوا بأي مبادرات تقوم بها السلطات، ولم يُستثن التطعيم منها".

والآن، نظرا لتجاوز معدلات الوفيات لمستويات الذروة التي كانت عليها سابقا، وتزايد الخوف، بدأت معدلات التطعيم في الارتفاع. بيد أن العديد من البلدان تعرف انتشارا واسع النطاق لجوازات التلقيح المزيفة، ونتائج اختبار التفاعل المتسلسل للبوليميراز- ففي بلغاريا، على سبيل المثال، يمكن شراء جوازات اللقاح ونتائج الاختبارات مقابل 150-300 يورو (173-347 دولارا)- ولا أحد على علم بعدد هذه الوثائق، وحتى الأشخاص الذين رأوا عدة أصدقاء لهم يموتون ما زالوا يصرون على أن اللقاحات خطيرة لأنها تحتوي على روبوتات نانوية، أو أنها ستعيد كتابة الحمض النووي الخاص بك، أو لأن الشركات الصيدلانية العالمية التي تنتجها لا يمكن الوثوق بها فيما يتعلق بالسلامة العامة.

وبطبيعة الحال، تنتشر الشائعات والمعلومات المضللة في الغرب أيضا، فد استمرت قناة (فوكس نيوز)، القناة الإخبارية الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة، في نشر معلومات مضللة عن اللقاحات لسنوات، ولكن 70 في المئة من البالغين الأميركيين تلقوا جرعاتهم الكاملة من التطعيم، فلماذا يعتبر الكثير من الأوروبيين الشرقيين أكثر عرضة للإصابة؟

إن تدني مستوى الثقة العامة الذي يميز أوروبا الشرقية هو إرث خلفه انهيار الشيوعية والركود الانتقالي الكبير في العديد من البلدان، وإخفاق حكومات ما بعد الشيوعية في التخفيف من آثار ذلك، ورغم أن مقالًا لـ(رويترز) تم تداوله على نطاق واسع، يشير إلى رأي "خبراء" لم تُذكر أسماؤهم والذين يلومون "عقوداً من الحكم الشيوعي الذي أدى إلى تراجع ثقة الشعب في مؤسسات الدولة"، كانت ثقة الشعب في الواقع أكبر بكثير في الحقبة الشيوعية.

وبينما كنا نشتغل على كتابنا الأخير، Taking Stock of Shock: Social Consequences of the 1989 Revolutions، تَطرقنا لافتقار أوروبا الشرقية للثقة العامة باستخدام بيانات من المسوح العالمية للقيم، ومسوح الحياة في المرحلة الانتقالية الصادرة عن المصرف الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وباستثناء القليل من البلدان، تُظهر مسوح القيم العالمية انخفاضاً ثابتاً في البلدان الشيوعية السابقة فيما يتعلق بنسب الأشخاص الذين يتفقون مع عبارة "يمكن الوثوق بمعظم الناس". وكان هذا التراجع أوضح في البلدان التي عانت ركوداً أعمق في فترة ما بعد الشيوعية، ولم يعكس منحاه عندما استرجعت هذه البلدان نموها الاقتصادي. وبالأحرى، استمرت ثقة عامة الناس في التراجع، ففي بلغاريا بين عامي 1995 و1998، وهي بعض أسوأ سنوات الركود الانتقالي، كان 23.7 في المئة من المشاركين يثقون بمواطنيهم، مقارنة بـ17.1 في المئة فقط بين 2017 و2020، وفي رومانيا، تراجعت الثقة الاجتماعية من 17.9 في المئة إلى 12.1 في المئة في الفترة نفسها.

وحتى في الحالات الناجحة نسبيا في بولندا وجمهورية التشيك، حيث توفر مسوح القيم العالمية بيانات بصورة أكمل، تراجعت الثقة خلال فترة الانتقال التي أعقبت الشيوعية، ففي الأعوام بين 1989 و1992، اعتقد 31.3 في المئة من البولنديين و30.2 في المئة من التشيك أنه يمكن الوثوق بمعظم الناس، وبين 2017 و2020، كانت هذه الحصة أقل بكثير، فقط 24.1 في المئة و21.1 في المئة على التوالي، ومن الواضح أنه حين تراجعت الثقة الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية بين عامي 1991 و2007 زادت في أوروبا الغربية.

وأجرى البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية دراسته الاستقصائية الكبيرة "الحياة في المرحلة الانتقالية" في عام 2006، عن طريق إجراء 1000 مقابلة شخصية في كل دولة من الدول الـ28 ما بعد الشيوعية، وخلُص إلى أنه في حين يعتقد ثلثا المجيبين أنه قبل عام 1989، كان ممكنا الوثوق بمعظم الناس، وافق نحو الثلث فقط على أنه يمكن الوثوق بمعظم الأشخاص بعد مرور 17 عاماً، وكانت هذه النتيجة متسقة في جميع المناطق والبلدان، حيث اتفق أغلب المجيبين في جميع الفئات العمرية وفئات الدخل على أن الناس كانوا عموما "أكثر جدارة بالثقة" في ظل الشيوعية.

وليس من المستغرب أن خيبة الأمل من نتائج التحول أدت أيضا إلى انخفاض متوسط الثقة في المؤسسات العامة (بما في ذلك الحكومة، والبرلمان، والمحاكم والجيش، والشرطة)، في منطقة ما بعد الشيوعية من تسعينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومن عام 1990 إلى عام 2013، تراجعت الثقة في المؤسسات السياسية وسط أوروبا وشرقها إلى نصف المستوى الذي كانت عليه في السابق.

وبعد التأمل في هذه البيانات، خلُص إريك بيرغلوف، كبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في ذلك الوقت، إلى أنه "من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الضرر الذي حدث خلال الأوقات العصيبة، ليس فيما يتعلق بالرفاهية المادية فقط ولكن أيضا على المستويات العامة من الثقة والرفاهية الذاتية، لا ينبغي الاستهانة به".

وفي الواقع، تسلط البيانات المتعلقة بالدراسة الاستقصائية الضوء على حقيقة غير معروفة: فقد كانت فترات الركود ما بعد الشيوعية الأسوأ في التاريخ الحديث، وأسوأ بكثير من الكساد العظيم، ولكن لم تعانِ كل البلدان على قدم المساواة، ففي حين أن بعض الدول، ولا سيما دول أوروبا الوسطى، تعافت بسرعة نسبيا وحققت تقدما نحو معايير الاتحاد الأوروبي، عانت العديد من الدول الأخرى خسائر لا يمكن تصورها، فعادت الدول ما بعد الشيوعية المتوسطة الحال إلى مستويات ما قبل 1989 من الناتج الاقتصادي بعد 17 عاماً فقط، مما أدى إلى تغذية إرث عميق من عدم الثقة والشعور بالتخلي عن البلدان التي عززت ثقافة المساعدة المتبادلة ضد الدولة في ظل الشيوعية.

وتُظهر تجربة أوروبا الشرقية مع الوباء أن العديد من البلدان لم تتراجع بعد عن الانخفاض الكبير للثقة العامة الذي بدأ بعد عام 1989، وقبل اندلاع الأزمة بفترة طويلة، أصبحت هذه البلدان أرضا خصبة لحملات التضليل- أغلبها من صنع روسيا- التي تسعى إلى تحريض الرأي العام ضد الاتحاد الأوروبي، وضد الغرب، وضد الخبراء الناجحين في بلدانهم. إن الدرجة العالية من الشك في اللقاحات في المنطقة وارتفاع معدلات الوفيات هي نتيجة واضحة لا تعكس عقودا من الحكم الشيوعي فقط، بل بالأحرى، العواقب الاجتماعية التي استمرت عقوداً بعد انهياره.

* كريستين غودسي، أستاذة الدراسات في مجال شؤون روسيا وأوروبا الشرقية، وعضوة في مجموعة الدراسات العليا في الأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا، ومؤلفة كتاب Valkyries: The Revolutionary Women of Eastern EuropeRed. وميتشل أ. أورينشتاين، أستاذ الدراسات في مجال شؤون روسيا وشرق أوروبا والعلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا، وزميل أقدم في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومؤلف كتاب The Lands in Between: Russia vs. the West and the New Politics of Hybrid War.

* كريستين غودسي وميتشل أ. أورينشتاين

Project Syndicate

درجة الشك العالية من لقاحات المنطقة وارتفاع معدلات الوفيات نتيجة واضحة للعواقب الاجتماعية التي استمرت عقوداً بعد انهيار الشيوعية
back to top