هل انتهى عصر التدخل العسكري الأميركي؟

نشر في 14-11-2021
آخر تحديث 14-11-2021 | 00:00
 فوراين أفيرز يريد الرئيس جو بايدن إقناع العالم بأن الولايات المتحدة بدأت تتغير بطريقة جذرية، فصرّح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الماضي بأن زمن الافتتان الأميركي بالحروب انتهى، قال الرئيس إن الولايات المتحدة لن تتعامل مع القوة العسكرية كحل لجميع مشاكل العالم في المرحلة المقبلة، واعترف بايدن بأن الولايات المتحدة لم تكن تعتبر استعمال القوة "الملجأ الأخير" في عملياتها خلال العقود الماضية، بل إن القوة العسكرية باتت تعكس جوهر التحركات الأميركية لدرجة أن تصبح عبارات "الحروب الأبدية" أو "الحروب اللامتناهية" جزءاً من الخطاب السياسي اليومي، وفي هذه الحقبة الجديدة، قال بايدن إن القيادة الأميركية العالمية لا تزال مهمة، لكن لن تبقى الولايات المتحدة مجرّد قوة عسكرية بل ستصبح قدوة للآخرين أيضاً.

إذا أراد بايدن أن يُحوّل عقيدته المؤقتة إلى واقع ملموس، فيجب أن يبني سياساته وخيارات الإنفاق حول هذه الفكرة، ويجب أن تطبّق الولايات المتحدة مثلاً القواعد التي تحكم استعمال القوة بالطريقة التي تتوقعها من الدول الأخرى، ويُفترض أن تقلّص بصمتها العسكرية في أنحاء العالم وتعيد النظر بمبلغ التريليون دولار الذي تنوي إنفاقه على ترسانتها النووية خلال السنوات القليلة المقبلة، إنه جزء من الخطوات التي يستطيع بايدن اتخاذها إذا أراد التأكيد على انسحاب الولايات المتحدة من حقبة "أميركا أولاً" التي أطلقها ترامب، لكن لن تكون العودة إلى الوضع الذي سبق عهد ترامب كافية.

الأفعال أهم من الأقوال!

إذا أراد الرئيس بايدن أن يثبت جدّية مواقفه، فيجب أن يفصّل الخطوات العملية التي تسمح بتحقيق رؤيته، ويمكنه أن يبدأ بوزارة الدفاع الأميركية، بحيث تكون القوات الأميركية المسلّحة متأهبة دوماً للتعامل مع أي تهديدات محتملة في أماكن بعيدة مثل منطقة الخليج وشرق آسيا وأوروبا، لكن أحداث السنتين الأخيرتين أثبتت أن التهديدات التي تطرح مخاطر مباشرة على أمن الأميركيين وسلامتهم في مكان إقامتهم تبقى مجرّد أحداث محتملة في معظم الأوقات، وبالنسبة إلى البنتاغون، يعني ذلك أن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي تتفوق بأهميتها على حرائق الغابات، والأعاصير، والفيضانات، والأوبئة، وانفلات الحدود محلياً، ولا ننسى كبح حركات التمرد المتقطعة، حيث ستصبح هذه المسائل من مسؤولية الوكالات التي تحظى بميزانيات وموارد ضئيلة مقارنةً بامتيازات القوات المسلحة.

لكن يطرح معنى "الأمن القومي" مشكلة في هذا المجال، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يشير هذا المصطلح إلى التعامل مع التهديدات العسكرية عبر الاتكال على التحركات العسكرية المباشرة أو الضمنية، ونتيجةً لذلك، أصبح البنتاغون معتاداً على أخذ أكبر حصة من الموارد المخصصة للأمن القومي، وفي أوساط السياسة الخارجية، لا يُسبب تخصيص الموارد أي جدل بارز. أمام هذا الوضع، يجب أن يُصِرّ بايدن على معالجة الخلل ويخصص أموالاً إضافية لوكالات مثل خفر السواحل، والمعاهد الوطنية للصحة، وخدمة الغابات الأميركية، ودوريات الحدود الأميركية، إلى جانب الجيش والقوات البحرية والجوية التي تصبح مضطرة لتحمّل تراجع مواردها بدرجة بسيطة. لكن بما أن الأوساط العسكرية والصناعية تفضّل استمرار الوضع الراهن، فمن المتوقع أن تعارض أي خطوة تختلف عن مفهوم الأمن القومي النموذجي، وإذا كان بايدن ملتزماً بالتغيير فستكون مهمته شاقة، إذ لم يتّضح بعد مدى استعداده لخسارة جزء من رصيده السياسي لمواجهة القوى المتمسكة بالترتيبات الراهنة، وإذا اعترض مثلاً على قرار مجلس النواب الأخير الذي يصادق على تخصيص 786 مليار دولار للإنفاق العسكري في عام 2022، وهي أكبر ميزانية عسكرية على الإطلاق، فيجب أن يعبّر عن موقفه علناً.

سيترافق تخفيض ميزانية البنتاغون مع تداعيات كبرى وحتمية على تركيبة القوات الأميركية المسلحة ومراكزها، وفي هذا المجال أيضاً، يستطيع بايدن أن يثبت جدّيته حين قال إن استعمال القوة يبقى الملجأ الأخير، ويشدّد على أهمية المقاربات البعيدة عن أسلوب الإكراه لأداء دور القيادة، إذ تقضي خطوة أولية مفيدة بإغلاق عدد من مراكز القيادة القتالية الإقليمية الستة التي تشرف على العمليات العسكرية الأميركية في مساحات جغرافية واسعة، وفي هذا السياق، يجب أن تُلغى القيادة الجنوبية للولايات المتحدة في المقام الأول كونها تتحمّل "مسؤولية" أميركا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي كلها.

يواجه جيران الولايات المتحدة جنوباً مجموعة متنوعة من التحديات، أبرزها تراجع النمو الاقتصادي، وهشاشة المؤسسات السياسية، والمشاكل الداخلية المرتبطة بالفساد والجرائم وتجارة المخدرات، ولا ننسى التغير المناخي طبعاً، ويجب أن تثبت الولايات المتحدة قوتها لتخفيف حدّة هذه المشاكل، لكن لا يمكن حل أيٍّ منها بالطرق العسكرية، وبالإضافة إلى توظيف جنرال أو أميرال برتبة أربع نجوم، يُعتبر دور القيادة الأميركية الجنوبية في معالجة مخاوف الأمن القومي الراهنة مهماً بالقدر نفسه. على نطاق أوسع، يجب أن تُخفّض إدارة بايدن عدد القواعد الأميركية في الخارج أيضاً، حيث ينتشر اليوم نحو 750 قاعدة في أكثر من 80 دولة، ويمكن البدء بتقليص الوجود العسكري الأميركي الخارجي في أوروبا، فبعد مرور ثمانية عقود تقريباً على الحرب العالمية الثانية وثلاثة عقود على الحرب الباردة، تلاشت الحاجة إلى دعم ديموقراطيات مثل ألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة، عبر القوة العسكرية الأميركية، إذ تستطيع تلك الدول اليوم أن تدافع عن نفسها بنفسها، وبالإضافة إلى تخفيض البصمة العسكرية الأميركية، يجب أن تكبح إدارة بايدن صادرات الأسلحة أميركية الصنع التي بلغت قيمتها 175 مليار دولار خلال السنة المالية 2020، ويمكن البدء بتقليص مبيعات الأسلحة المتقدمة إلى المملكة العربية السعودية، فهي تتجاوز اليوم عتبة الثلاثة مليارات دولار سنوياً.

على صعيد آخر، يمكن الابتعاد عن النزعة العسكرية وإعادة توجيه الإنفاق نحو أولويات أكثر إلحاحاً عبر متابعة تحديث قوة الضربات النووية الأميركية، فلا تزال الحرب النووية (أو الحوادث النووية) من أبرز التهديدات الوشيكة على البشرية كلها، حيث تلتزم الولايات المتحدة راهناً باستبدال استراتيجيتها الثلاثية المبنية على قاذفات بعيدة المدى، وصواريخ بالستية تنطلق من الغواصات، وصواريخ بالستية أرضية وعابرة للقارات، رغم تراجع النقاش العام حول هذا الموضوع، ومن المتوقع أن يستمر هذا المشروع حتى منتصف العقد المقبل، وقد يكلّف تريليون دولار على الأقل، لكن تعهدت الولايات المتحدة، بصفتها جزءاً من الدول الموقِّعة على "معاهدة منع الانتشار النووي"، بمتابعة المفاوضات المؤدية إلى نزع الأسلحة النووية وهي تحمل أفضل النوايا.

وإذا أراد بايدن أن يثبت إصراره على جعل بلده قدوة للآخرين، يمكنه أن يفكّر بتنفيذ الواجبات الأميركية التي تفرضها معاهدة منع الانتشار النووي عبر اتخاذ خطوات ملموسة بدل الاكتفاء بالخطابات، ويمكن تحقيق هذا الهدف عبر تجديد الترسانة النووية الأميركية بدل استبدالها بالكامل.

قد تتحقق النتيجة نفسها أيضاً عبر التخلي عن خيار توجيه الضربة النووية الأولى، أي إطلاق هجوم استباقي لنسف ترسانة الأعداء، وهذا التعهد لن يمنع الولايات المتحدة من الرد إذا استهدفها أي هجوم نووي، لكنه سيثبت جدّيتها في إلغاء التهديد الذي تطرحه القوى النووية على البشرية منذ بداية الحرب الباردة.

حرب باردة جديدة

تُعتبر الصين أفضل ملف تجريبي كي يثبت بايدن إصراره على تحويل كلامه إلى حقيقة ملموسة، فإذا أصبح استعمال القوة الملجأ الأخير فعلاً، يُفترض أن يبذل بايدن قصارى جهده لمنع تحوّل الخصومة المتوسعة بين الولايات المتحدة والصين إلى منافسة عسكرية شاملة، وسيكون تحويل سباق التسلح إلى محور العلاقات الأميركية الصينية، بما يشبه السباق الذي أجّج العداء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الخمسينيات، إثباتاً على أعلى درجات التهور، ولكن يكشف الاتفاق الأخير بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة لبيع غواصات عاملة بالطاقة النووية إلى أستراليا أن بايدن يسير في هذا الاتجاه على ما يبدو، فقد قال بايدن خلال خطابه أمام الأمم المتحدة إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إطلاق حرب باردة جديدة أو تقسيم العالم إلى كتل جامدة، لكن تبقى الأفعال أهم من الأقوال، ويبدو أن بايدن يتقبّل حتى الآن احتمال اندلاع حرب باردة حتمية أو يرحّب بهذا الخيار، وفي مطلق الأحوال، بدأت مصداقية بايدن تتلاشى بعد صفقة الغواصات رغم تأكيده على رغبة الولايات المتحدة في التحوّل إلى قدوة لغيرها، وربما يعوّل بايدن على تعزيز القوة العسكرية التي يملكها حلفاء واشنطن الثانويون لتليين مواقف الصين، لكنه يقوم برهان كبير ومحفوف بالمخاطر في هذه الحالة.

في الأوساط المرموقة، يُعتبر شعار "أميركا أولاً" غير مقبول بأي شكل لأنه يُذكّر الجميع بالتحركات غير المسؤولة خلال فترة الثلاثينات وبتهوّر سلف بايدن، لكن لطالما كان إبقاء الولايات المتحدة في المرتبة الأولى، أي الحفاظ على تفوّقها عالمياً، أهم هدف في أوساط السياسة الخارجية التي يُعتبر بايدن جزءاً منها، وبرأي أعضاء هذه المؤسسة، من الطبيعي أن تتمتع الولايات المتحدة بامتيازات وصلاحيات لا تحصل عليها الدول الأخرى، ويوافق الشعب الأميركي على هذا المبدأ ويعتبر تلك الامتيازات من حقه، لكن من الأفضل على الأرجح أن تعتبر الولايات المتحدة المرحلة الراهنة دعوة لإعادة تقييم هذا الطرح، وفي الحد الأدنى، يستطيع صانعو السياسة أن يفكروا باحتمال أن تؤدي إساءة استخدام القوة العسكرية إلى تبديد ما تبقى من المكانة الأميركية المميزة.

* أندرو باسيفيتش وأنيل شيلين

كاتب

back to top