العراق والعسكر (2-2)

نشر في 03-11-2021
آخر تحديث 03-11-2021 | 00:10
 خليل علي حيدر قد يحكم ضابط عسكري دولة ما دون أن يعني ذلك وقوع انقلاب عسكري، فالعسكر في النهاية مواطنون لهم الحق نفسه في دول كثيرة في تسلم المناصب السياسية، أيا كانت، وبخاصة بعد تقاعدهم مثلا أو استقالتهم من الجيش!

وكما يقول المؤرخ العراقي البارز د. مجيد خدوري 1908-2007 في كتابه التحليلي الشيق "الاتجاهات السياسية في العالم العربي"، بيروت 1972 "إن العسكريين قد يُنتخبون أو يعينون في مناصب سياسية مرموقة، لكن هذا يختلف تماما عن إقدام العسكريين على إشغال مثل هذه المناصب بقوة السلاح". (ص146).

ألف د. الخدوري أكثر من 35 كتاباً باللغتين العربية والإنكليزية، ترجم العديد منها إلى لغات مختلفة، وأصبح بعضها مراجع مهمة على المستوى العالمي، ومنها كتابه هذا، وقد كان د. الخدوري عام 1945 عضواً في الوفد العراقي لتأسيس الأمم المتحدة، وعاد إلى الولايات المتحدة مرة أخرى عام 1947 ليعمل في العديد من الجامعات مثل شيكاغو وكولومبيا وهارفارد، كما ترأس في جامعة جونز هوبكنز قسم الدراسات العليا المعنية بشؤون الشرق الأوسط حتى تقاعده، وهو من مواليد الموصل.

يتحدث د. الخدوري عن الثورات العسكرية العربية في القرن العشرين، فيقول إن تدخل العسكريين في السياسة ليس بجديد في التاريخ العربي فمنذ القدم كانت قوة الحكام تعتمد على دعاميتن: الجيش ورجال الدين، واستمر هذا التقليد عبر القرون رغم بعض الاضطرابات، إذ طالما عمد قادة الجيوش إلى الإطاحة بحاكم بعد آخر حين يشتد ساعدهم.

واعتاد الضباط في جميع البلاد العربية التي مرت بالحكم العسكري أن يعلنوا في البداية أن هدفهم هو الإطاحة بالطبقة الحاكمة بعد أن استحالت إزاحتها بالوسائل السلمية، وأن ما يريدونه لا يتعدى تسليم السلطة إلى زعماء جدد من الشباب.

وكان هذا الهدف يلاقي في جميع الحالات قبولا شاملا، ذلك "لأن الحكام الكبار لطخوا سمعتهم بالفساد وسوء استعمال الإجراءات الديموقراطية".

وكان هذا القبول الشعبي يُساء فهمه من العسكر في السلطة، و"كثيراً ما قادت هذه الاستجابة الأولية الودية التي أظهرها الشعب إلى تضليل العسكريين وحملهم على الاستنتاج أن الشعب يريد دوام الحكم العسكري حتى بعد إنجاز مهمة إبعاد القيادة القديمة. أضف إلى ذلك "أن العسكريين وقد اعتادوا بطبيعتهم طاعة الأوامر وتنفيذ الأعمال السريعة، فأظهروا في البداية روحا جديدة من النظام والكفاية في تصريف شؤون الحكومة، عملت على تخفيف وطأة الفساد الإداري والتأخير البيروقراطي في المعاملات لكن افتقار العسكريين إلى الخبرة قادهم إلى إصدار أحكام وقوانين خاطئة، وسرعان ما ابتدع بعض الحكام الجدد من الضباط عادات فاسدة أضرت بسمعة الجيش ولم يتباطأ الحكام العسكريون في محاكمة الخونة الذين تلاعبوا بمقدرات الأمة وارتكبوا مظالم فادحة فانشأوا محاكم عسكرية".

لم تكن مسيرة الانقلابات في العالم العربي فشلاً كاملاً أو فساداً محضاً، ففي العديد من الحالات كانت تنجز بوسائلها وعلى عجل بعض المشاريع أو تقود مسيرة إصلاحية ما، وغير ذلك مما كان من المفترض أو الممكن بالطبع أن تتحقق على يد الأنظمة الشرعية وما من هدف وطني قام به الانقلابيون من العسكر كان يصعب تحقيقه بوسائل ديموقراطية، وإن استدعى الأمر طلب الرئيس تخويله سلطات خاصة مؤقتة.

يقول د. خدوري إن العسكريين أقدموا على "تنفيذ برامج إصلاحية عرفت بشعبيتها بين الناس لكن الحكام التقليديين الذين سبقوهم لم يحققوها لأنها كانت تتنافى مع مصالحهم، من ذلك رفع مستوى العمال والفلاحين النهوض بالبلاد من الفقر والتخلف، وطالما دعا المصلحون الاجتماعيون وكذلك الناطقون باسم الفئات العقائدية الفتية إلى إلغاء الملكية الواسعة وتوزيع الأراضي على الفلاحين، لكن أيا من زعماء الأنظمة البائدة لم يقدم على تنفيذ أي إجراء هام في مجال الإصلاح الاجتماعي، أو على تحسين أحوال الفقراء البائسة، أما العسكريون فقد أعلنوا مباشرة بعد تسلمهم السلطة استعدادهم لتنفيذ هذه الإصلاحات".

غير أن د. خدوري يثير هنا نقطة مهمة كانت سبب فشل العسكر وتعثر خطواتهم، فقد تحمس العسكر لإعطاء شرعية وطنية لأنظمتهم التي أقاموها "دون دراسة دقيقة للإجراءات والخطط الضرورية لتنفيذها، معتقدين أن امتلاكهم السلطة بالإضافة إلى تأييد الجماهير سيمكنهم من تحقيق برامج الإصلاح"، ويضيف "أن قوانين الإصلاح الزراعي صدرت في مصر وسورية أولاً سنة 1953، ثم في العراق 1958، لكن سرعان ما تبين بوضوح أن تحسين الأوضاع الاقتصادية يعتمد في الدرجة الأولى على إيجاد وسائل جديدة للإنتاج الزراعي لا على مجرد توزيع أراضي الدولة أو على إعادة توزيع الأراضي التي يملكها القلة على عدد أكبر من الناس، وهكذا حرك العسكريون بالتجربة والخطأ مزالق تنفيذ الإصلاح الاجتماعي". (ص148-149).

عدد الانقلابات العسكرية في العالم العربي حتى عام إنجاز كتاب د. خدوري أي 1972، يقول: "جربت ثماني دول عربية الثورات العسكرية وهي مصر وسورية والأردن والعراق واليمن والسودان والجزائر وليبيا تضم القسم الأكبر من الوطن العربي، هذا مع العلم أن بعض الدول العربية الأخرى لا يزال عرضة لضغط العسكريين.

وشهدت مصر ثلاثة انقلابات عسكرية (1881،1952، 1954)، والعراق عددا من الانقلابات 1936، 1941، 1958، 1968، وسورية عددا أكبر منذ 1949. كما شهد السودان ثلاثة انقلابات 1958، 1964، 1969، واليمن ثلاثة انقلابات أيضا 1949، وليبيا انقلابا واحدا 1969 وليست هذه الانقلابات الثلاثين أو أكثر هي كل ما جرى إنما اختيرت كأمثلة على الحالات التي عمد فيها الجيش إلى قلب النظام القائم والقبض على زمام السلطة". (ص149).

أجاب عن سؤالنا حول العسكر والعراق المفكر القومي المعروف ساطع الحصري 1880-1969 الذي تولى وزارة التربية أو المعارف في زمن فيصل الأول بالعراق، وقد وضع الحصري كتبا ومؤلفات كثيرة منها كتاب بعنوان "البلاد العربية والدولة العثمانية" شرح فيه ما قد يكون توضيحا لأسباب اهتمام العراقيين بالجوانب العسكرية.

يكتب الحصري شارحا ما جرى في الحياة التعليمية العراقية والتي تميزت من خلالها المدارس العسكرية، ويقول: "إن العلوم العصرية على اختلاف أنواعها دخلت الممالك العثمانية أول ما دخلت عن طريق المدارس العسكرية".

ويضيف "أولى المدارس الحديثة كانت أنشئت لغايات عسكرية بحتة وأول المؤلفات في العلوم الرياضية والطبيعية وحتى في التاريخ والجغرافيا كانت وضعت في المدارس العسكرية وللمدارس العسكرية، كما أن إنشاء المدارس العسكرية قد سبق إنشاء المدارس الملكية مدة طويلة لا تقل عن نصف قرن بوجه عام.

فإن مدارس الفنون البحرية والهندسة الملكية أنشئت في أواخر القرن الثامن عشر ولكن مدارس الحقوق والإدارة والتجارة والزراعة مثلا لم تنشأ إلا في أواخر القرن التاسع عشر.

حتى تعليم الطب الحديث بدأ في "الطبية العسكرية" التي أنشئت لتخريج الأطباء والجراحين والصيادلة الذين يحتاج اليهم الجيش العثماني". (ص71).

ويوضح الحصري أن "الولايات العراقية كانت أكثر استفادة من المدارس العالية العسكرية بسبب طول الطرق التي كانت تصلها بعاصمة السلطنة فضلا عن صعوبتها ووعورتها، والفرق بين إمكانات الانتساب إلى المدارس العالية العسكرية وبين الانتساب الى المدارس العالية الأخرى كان كبيرا جدا جدا بالنسبة الى أبناء تلك الولايات".

ويضيف الحصري عن نتائج هذا الانكباب على المدارس الحربية فيقول: "وهذا هو السبب في أن الحكومة العراقية في بدء تكوينها لم تجد بين أبنائها إلا عددا قليلا جداً من خريجي المدرسة الحربية، ومن يستعرض أسماء رؤساء الوزارات الذين تولوا الحكم بين سنة 1923 وسنة 1941 يجد أن معظمهم كان ممن درسوا في المدارس العسكرية".

وبهذا نعرف سر الولع بالثقافة العسكرية في العراق.

● خليل علي حيدر

back to top