العراق والعسكر (1-2)

نشر في 02-11-2021
آخر تحديث 02-11-2021 | 00:07
 خليل علي حيدر تمر هذه السنة الذكرى المئوية الأولى لتأسيس دولة العراق، الدولة التي عانت منذ تأسيسها الحديث عام 1921 حتى اليوم الكثير من الحروب والانقلابات وأحداث العنف وغيرها، والتي قد يحاول البعض تفسير هذه المعاناة بمراجعة التاريخ القديم أو الحديث لبلاد الرافدين العريقة.

فلماذا كانت للعسكرية هذه المكانة المتميزة في العراق الحديث مثلا منذ قيامه؟ وهل للأمر علاقة بمؤسسات الدولة والعهد العثماني والمؤسسات التعليمية؟! وما سر ولع العراقيين لسنين طويلة كما يرى البعض بالجيوش والحشود والألقاب العسكرية؟ ولماذا شهد العراق أول انقلاب عسكري مثلا في العالم العربي، بعد الحرب العالمية الأولى، وهو انقلاب الفريق بكر صدقي في نهاية أكتوبر 1936 في عهد الملك غازي؟

يقول سعد سعدي في "معجم الشرق الأوسط" ص 264 عن هذا الانقلاب "إن بكر صدقي أظهر توجها قوميا عربيا معاديا للاستعمار الفرنسي والبريطاني، لكنه اشتهر بقمع حركات الآشوريين بقسوة لا مثيل لها، ثم اليزيديين"، ويضيف سعدي إن "فريتزغروبا"، سفير الرايخ الثالث ألمانيا الهتلرية، يقول في مذكراته، إن "بكر صدقي أخبرني بصورة سرية أنه كردي وأنه وضع هدفا معينا نصب عينيه هو تأسيس الدولة الكردية".

بدأت سلسلة الانقلابات العراقية المعاصرة ببكر صدقي، الذي تقول بعض المراجع إنه كان يحاول الاقتداء بالتجارب التركية "مصطفى كمال أتاتورك" والإيرانية "رضا شاه" في إقامة نظام فردي يقود حركة إصلاحية شمولية، وإلى جانب الآشوريين واليزيديين قمع صدقي بعض العشائر في الجنوب العراقي، حيث أثار في النهاية نقمة ضباط آخرين في الجيش قبل أن يرى برنامجه الوطني القومي النور، فقام بعضهم باغتياله بعد أقل من عام على انقلابه في أغسطس 1937، ولكن ثقافة الانقلابات العسكرية تسربت الى الحياة العراقية، وربما استقت الروح العسكرية في العراق من التراث التاريخي العريق، وبخاصة الدولة الآشورية التي يرى فيها المؤرخون نموذجا للعنف المفرط والفقر الثقافي.

يقول الكاتب المصري د.محمد عبدالستار البدري في مقالات قيمة له عن حضارة بلاد الرافدين متحدثا عن الدولة الآشورية على وجه الخصوص: "تعد الدولة الآشورية نموذجا فريداً لحضارات ما بين النهرين، فهي لم تقدم للإنسانية جزءاً مما قدمته الدولة السومرية من حيث الثقافة والحضارة والفكر، كما أنها لم تستطع منافسة الدولة البابلية الأولى أو الثانية في أي إنجازات لها، فهي دولة تكاد آثارها الحضارية تختفي من خريطة الحياة الفكرية للإنسانية، فلقد اعتمدت في الأساس على القوة العسكرية فلم تستطع أن تقدم الكثير سوى الاحتلال والعنف واستغلال الدول الأخرى، فالقارئ لتاريخها سيدرك من الوهلة الأولى أنها دولة تشبه بشكل كبير دولة إسبرطة في اليونان، ولكنها كانت تسبقها بمئات السنين، وليس من المستبعد أن تكون، أي إسبرطة اليونانية، قد تأثرت بالفعل بالدولة الآشورية من خلال التجارة وانتقال الأفراد".

تشربت الدولة الآشورية الروحية العسكرية واستخدام القوة الوحشية مع الخصوم والشعوب المجاورة، ويقول د.البدري في المقال نفسه: "حقيقة الأمر أن هذه الدولة كانت فريدة في التاريخ القديم، فهي دولة عسكرية مبنية على فكرة القوة والجيش، فالجندية كانت أهم سمة من سمات هذا المجتمع، فحلم أي شاب هو التدرج العسكري ليصبح قائدا عسكريا، فهذه الطبقة من المجتمع كانت أعلى طبقات السلم الاجتماعي، وقد حرم على مواطني هذه الدول من الذكور أن يعملوا إلا في العسكرية أو الزراعة أما باقي المهن فكانت متروكة للشعوب التي احتلوها أو العبيد في تشابه ملحوظ مع النمط الإسبرطي، وهو ما يعكس تركيز سياسة الدولة على الجهد العسكري وتقوية الجيش، مما ضمن لهم آلة عسكرية قوية تستطيع أن تخضع أعتى الجيوش، وقد استثمرت الدولة الآشورية كثيرا في تقوية الجيش باعتباره حامي الدولة وقوتها الداعمة، فكان لديهم دائما التقدم العسكري والعلمي الذي يخدم هذا القطاع ولكن الثابت أن هذه الدولة اتبعت وسائل قاسية وغير إنسانية لإرهاب الدول والجيوش التي كان من المقرر أن تواجهها، فلقد كان من المتبع أن يتم حرق الأسرى أو تقطيع أطرافهم وتعليق جثثهم أو تعذيبهم على مرأى ومسمع من الجميع ليكونوا عبرة أمام الشعوب الأخرى التي تسعى لمقاومتهم، وهكذا وصلت قوتهم التوسعية الى أوجها بحلول القرن السابع قبل الميلاد باحتلال أجزاء كبيرة من منطقة ما بين النهرين".

قامت الدولة الآشورية بتعديل قانون حمورابي الشهير خدمة لعسكرة الدولة، حيث تركزت عقوبة الإعدام على الإجهاض، فكان محظور على المرأة أن تجهض نفسها لرغبة الدولة في زيارة المواليد خدمة للمجهود الحربي بل سمح الآشوريون من أجل ذلك بتعدد الزوجات وفرضوا على الزوجات تغطية الرأس كنوع من الفضيلة والعفة.

يذكرنا هذا كذلك بالروحية المحافظة للدولة النازية زمن هتلر الذي تبنى في الجوانب الأسرية والقضايا النسائية مواقف تقليدية.

جاءت نهاية الدولة الآشورية سريعة وعنيفة للغاية، ويقول د.البدري إن الشعوب المجاورة لجأت إلى قتل الآشوريين بمجرد سقوط دولتهم فتم تشتيت المجتمع الآشوري بكل وحشية وقمعية وعنف".

ويضيف الباحث أنه "بيعت النساء والأطفال كعبيد بينما قتل الرجال خاصة العسكريين منهم ودفع الآشوريون ثمن حياتهم العسكرية المتعالية فعاشت هذه الدولة بالعنف وماتت بالعنف".

(الشرق الأوسط 21/ 12/ 2012).

استمرت الدولة الآشورية نحو 700 سنة، وقد استطاعت الدولة البابلية الحديثة أن تكسر سلطتها العسكرية في عام 612 قبل الميلاد وتحتل عاصمتها نينوى على نهر دجلة وتقابل مكان الموصل الحديث بالعراق.

لا يؤيد المؤرخون ما يذهب اليه د.البدري بشأن افتقار الآشوريين إلى الاهتمام بالثقافة والفنون، وعلى العكس تماما يستعرض موقع المرجع الإلكتروني للمعلوماتية كتابا للباحث العراقي "طه باقر" وقد جاء في الموقع "أن الفن الآشوري اشتهر لدى العالم الحديث قبل غيره من العناصر الأخرى في حضارة وادي الرافدين لأنه كان أول ما عرف من هذه الحضارة قبل أكثر من مئة عام يوم كشف عنه أول التنقيبات في العراق في منتصف القرن الماضي. ويضيف الموقع أن الفن الآشوري ولد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، غير أن هذا الفن كان مستنداً في الواقع إلى الفن البابلي الذي اقتبسه الآشوريون في العصور الأولى لحضارتهم.

وبدأ الفن الآشوري بالاستقلال والبروز لاحقاً، وكان الطابع العسكري طاغيا عليه ابتداء من زمن الملك "توكاتي- نينورتا" الأول 1208- 1244 ق.م وبخاصة المشاهد العسكرية، ويعدد الباحث باقر في هذا الموقع عدة خصائص للفن الآشوري هي:

1- البروز في مجال النحت البارز أكثر منه في النحت المجسم.

2- استخدم الفن الآشوري المجسم لأغراض الدعاية الملكية لأحداث الخوف والرعب والطاعة في قلوب من يشاهدون عن عظمة الملك وقدرته وجبروته وبطشه وفتوحه فأصبح بذلك رسما إمبراطوريا.

3- استخدم الآشوريون فن المجسمات الجدارية في تزيين القصور، ومن المحتمل أنهم اقتبسوا هذا الفن كذلك من الحيثيين في الأناضول بتركيا الحالية.

4- استفاد الآشوريون من وجود الجبال والأحجار الصلبة في منطقتهم وبخاصة حجر الحلان المشهور بنوعيه الضارب الى الحمرة أو الصفرة.

5- إبدع بعض الفنانين في تمثيل المشاهد الحية وبخاصة مشاهد الصيد، حيث توجد في معظم المتاحف العالمية نماذج من هذا الفن وينفرد المتحفان البريطاني واللوفر بكبر مجاميعهما.

هذا كله عن الجيش والعسكرية في العراق القديم وحضارة ما بين الرافدين العظيمة وقد مرت بالعراق ظروف عسكرية وحروب في القرون اللاحقة حتى اليوم، ولكن مرة أخرى لماذا برز العراق في نهضته الحديثة بالاهتمامات العسكرية؟ سنرى ذلك في مقال قادم.

● خليل علي حيدر

back to top