إسرائيل تتجسس اقتصادياً على الولايات المتحدة منذ عقود

نشر في 20-10-2021
آخر تحديث 20-10-2021 | 00:06
No Image Caption
منذ نشوئها في عام 1948، تنفّذ إسرائيل، التي تتلقى مليارات الدولارات من الولايات المتحدة، عمليات تجسس في واشنطن، معظمها من النوع الاقتصادي.
تشمل هذه المقاربة غير القانونية تحويل المساعدات الأميركية الخارجية عن طريق الاحتيال، وإعادة نقل تقنيات أميركية حساسة إلى أطراف ثالثة بطريقة غير شرعية، وانتهاك قيود الاستخدام النهائي المفروضة على معدات الجيش الأميركي المنقولة إلى إسرائيل.

الكاتب : أليسون وير

وفق أوساط الاستخبارات الأميركية، تحمل إسرائيل ثلاثة دوافع للتجسس: تقوية قاعدتها الصناعية، وبيع المعلومات أو المتاجرة بها مع دول أخرى (لا سيما الصين) لجني الأرباح أو لتطوير روابط سياسية مفيدة، وإيجاد مصادر بديلة عن الأسلحة والعمليات الاستخبارية.

لكن يمكن إضافة عامل رابع إلى هذه الأسباب الثلاثة، حيث اعترف مسؤول استخباري أميركي سابق بأن إسرائيل تدرك أنها تستطيع سرقة كل ما تريده، ومع ذلك سيتابع الأميركيون ضخ الأموال لها.

إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يتكل فيها قطاع الدفاع على دعمٍ هائل من الولايات المتحدة، ولا يملك أي بلد آخر شبكة معلومات أكثر فاعلية داخل السلطة التنفيذية، وتحديداً في الفروع التشريعية من الحكومة الأميركية.

من ناحية معينة، لا تُعتبر إسرائيل حالة استثنائية، بل إنها واحدة من 12 دولة يعتبرها "المركز الوطني لمكافحة التجسس" ناشطة ضد المصالح الأميركية، وتعكس العمليات الإسرائيلية ظاهرة التجسس الاقتصادي المنتشرة على نطاق أوسع في العالم، وترتبط شركات الدفاع الإسرائيلية بعلاقات وثيقة مع الدولة، وهي تخوض منافسة قوية مع الشركات الأميركية، وعلى غرار كوريا الجنوبية وتايوان، حاولت إسرائيل استغلال الجماعات العرقية الأميركية التي تتعاطف معها، ومثل إيران والصين، لجأت إسرائيل إلى التجسس الاقتصادي لتطوير برنامج نووي وإيجاد الوسائل التي تسمح لها بتصنيع تلك الأسلحة، وعلى غرار الصين وروسيا، يبدو أن عملياتها الرامية إلى جمع معلومات استخبارية سياسية واستراتيجية لا تزال مستمرة في الولايات المتحدة، وغالباً ما تتداخل مع المعلومات الاقتصادية التي تجمعها.

لكنّ التجسس الإسرائيلي ضد الولايات المتحدة يحمل ميزة مختلفة، إذ لا يتمتع أي بلد آخر بهذا النوع من العلاقات "المميزة" والاستثنائية مع الولايات المتحدة، كما يُقال على نطاق واسع، ولا يتكل أي حليف آخر على الاستخبارات الأميركية للحفاظ على أمنه أو حتى الصمود بقدر إسرائيل، ولا يدرك أي بلد آخر طبيعة النظام السياسي الأميركي بقدرها، ولا يستفيد أحد من حماية الكونغرس السياسية لهذه الدرجة. أخيراً، قد لا تقتصر الاتهامات بـ"الولاء المزدوج" على المواطنين الأميركيين الداعمين لإسرائيل، لكن تُعتبر هذه التهمة الخطيرة مزعجة في هذه العلاقة بالذات.

الاحتيال وبعثة الشراء الإسرائيلية

يرتبط التجسس الاقتصادي الإسرائيلي أحياناً بعاملَين متداخلَين: عمليات الاحتيال التي ارتكبها المسؤولون الإسرائيليون في الولايات المتحدة، ونشاطات "بعثة الشراء الإسرائيلية" في نيويورك.

فيما يخص عمليات الاحتيال، دانت محكمة إسرائيلية الجنرال الإسرائيلي، رامي دوتان، في عام 1991 بتهمة التآمر مع هيربرت ستايندلر، وهو مدير تنفيذي في شركة "جنرال إلكتريك"، لتحويل مساعدات عسكرية أميركية بقيمة 40 مليون دولار بطريقة غير شرعية، ثم أُدين ستايندلر ودوتان وشخص آخر في محكمة أميركية فدرالية في عام 1994 بالتهمة نفسها، ووفق مذكرة أرسلتها وزارة العدل الأميركية إلى وزير الدفاع ديك تشيني في عام 1992، ربما كانت تلك التحويلات المخادعة للمساعدات الأميركية تهدف إلى "تمويل عمليات الاستخبارات الإسرائيلية في الولايات المتحدة". وقد افق محققون من لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب على هذا الاستنتاج، وقال مصدر مطّلع في الكونغرس إن "دوتان يتابع تحويل المساعدات العسكرية بطريقة غير شرعية، وهي عملية قائمة قبل ظهوره على الساحة".

على صعيد آخر، أسست "بعثة الشراء الإسرائيلية" في عام 1952، أي قبل أن تصبح الولايات المتحدة أبرز جهة تقدّم الأسلحة إلى إسرائيل بوقتٍ طويل، وهي تخضع لإشراف ضباط عسكريين إسرائيليين ومسؤولين دفاعيين وتشمل فريقاً مؤلفاً من مئتَي شخص تقريباً، وتُعتبر هذه البعثة محور جهود التنسيق بين إسرائيل وأوساط الدفاع الأميركي، وهي تستفيد من المساعدات العسكرية الأميركية السنوية التي تصل قيمتها إلى 1.8 مليار دولار لشراء السلع والخدمات الدفاعية في الولايات المتحدة، كما أنها تمنح العقود للشركات الأميركية وتتلقى تراخيص التصدير من وزارتَي الخارجية والتجارة لشحن المعدات إلى إسرائيل، وفي غضون ذلك، ترسل البعثة ضباط اتصال إلى عدد من مصانع الدفاع والمواقع في الولايات المتحدة ويمكنها الوصول إلى منشآت دفاعية أميركية أخرى، ويدرك طاقم العمل عموماً مسار تطور التقنيات الجديدة قبل مسؤولين بارزين في واشنطن، مما يزيد فرص التهرب من قيود التصدير.

تزداد سهولة عمليات التجسس الاقتصادي نظراً إلى قدرة إسرائيل على اختراق الشركات الأميركية والترتيبات الاستثنائية التي تسمح لها بدفع المال لتلك الشركات، وإذا أرادت الدول الأخرى استعمال المساعدات العسكرية الأميركية لشراء معدات دفاعية في الولايات المتحدة، تدفع الحكومة الأموال إلى الشركات الأميركية مباشرةً، مما يؤدي إلى تحسين الإشراف على هذه العملية، لكن تتولى "بعثة الشراء الإسرائيلية" دفع الأموال للشركات بنفسها ثم تسددها لها وزارة الخزانة الأميركية، وهذا الوضع يُسهّل عمليات الاحتيال أو التجسس التي شملت في السابق موظفين من "بعثة الشراء" في قضية دوتان، وفي قضايا أخرى تورطت فيها شركات مثل "نابكو" و"ريكون"، وعند محاولة تصدير تكنولوجيا القنابل العنقودية. وحين حاولت وزارة العدل الأميركية اتخاذ إجراءات ضد عدد من موظفي "بعثة الشراء" بسبب تورطهم المتكرر في اقتناء التكنولوجيا بطريقة غير شرعية، طالبت إسرائيل بحصانة دبلوماسية محدودة لمعظم موظفيها المحترفين وحصلت عليها من وزارة الخارجية في عام 1988.

الأسلحة النووية ووسائل التسليم

لا تزال الأدلة غير جازمة رسمياً، لكن تسود قناعة واسعة في أوساط وكالة الاستخبارات المركزية وفروع أخرى من الاستخبارات الأميركية، مفادها بأن الاستخبارات الإسرائيلية نقلت سراً نحو 90 كيلوغراماً من اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة من "شركة المواد والمعدات النووية" في "أبولو"، بنسلفانيا، خلال الستينيات، ويقول جون هادين، رئيس سابق لأحد فروع وكالة الاستخبارات المركزية في تل أبيب، إن تلك الشركة كانت عبارة عن "عملية إسرائيلية منذ البداية".

كان زلمان مردخاي شابيرو يملك تلك الشركة الخاصة، وهو عضو ناشط في المنظمة الصهيونية الأميركية وله علاقات وثيقة مع إسرائيل، وهذه الروابط والنشاطات لشابيرو أقنعت مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية بأنه ساعد العملاء الإسرائيليين في تهريب المواد من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، حيث استُعمِلت كوقود لأول أربعة أجهزة نووية تم جمعها في "ديمونا".

أجرى "مكتب محاسبة الحكومة" واللجنة الداخلية في مجلس النواب الأميركي تحقيقاً حول "شركة المواد والمعدات النووية" في عام 1978، لكن لم تُنشَر تقاريرهما للعلن يوماً، حتى أن حساسية هذا الملف دفعت الرئيس ليندون جونسون والإدارات الأميركية المتعاقبة إلى إخفاء مختلف التقارير الاستخبارية حول قضية "شركة المواد والمعدات النووية".

ظهرت قضية أخرى من هذا النوع في مايو 1985، حين اتّهمت هيئة محلفين فدرالية واسعة ريتشارد سميث، الأميركي اليهودي، بتهريب 810 قطع من مفاتيح كريتون الإلكترونية التي تُستعمَل لتشغيل الأسلحة النووية إلى إسرائيل، وأُطلِق سراح سميث مقابل كفالة بقيمة 100 ألف دولار ولم يحضر لاحقاً لمتابعة محاكمته، ثم تبيّن أنه موجود في إسرائيل، وتعكس هذه الحادثة طبيعة التجسس الإسرائيلي المستهدف في مجال الأسلحة النووية، لكن كان التجسس جزءاً بسيطاً من أسباب نجاح إسرائيل في تصنيع الأسلحة النووية، وبرزت عوامل مؤثرة أخرى، منها قاعدتها العلمية المتطورة، وتلقيها مساعدات مبكرة من فرنسا لمصلحة مفاعل "ديمونا"، والدور المالي للأميركيين اليهود الفرديين، والتعاون الضمني مع جنوب إفريقيا، لكن سمح التجسس للعلماء والمهندسين الإسرائيليين بتجاوز عقبات كبرى، منها الاستحواذ على اليورانيوم المستخدم لتصنيع الأسلحة ومفاتيح كريتون.

على صعيد آخر، حَضَر المنتج أرنون ميلشان والمخرج ستيفن سبيلبرغ حفل توزيع جوائز الأوسكار الثامن والثمانين، في 28 فبراير 2016، في هوليوود، كاليفورنيا، وكان ميلشان طوال سنوات عميلاً للاستخبارات الإسرائيلية في هوليوود، فيساعد البلد على تلقي التقنيات والمواد المحظورة التي تسمح لإسرائيل بتطوير سلاح نووي، وتعاون ميلشان مع ريتشارد سميث الذي لم يحضر محاكمته بتهمة تهريب قطع نووية إلى إسرائيل، ويقول ميلشان إن "أسماءً مشهورة أخرى في هوليوود متورطة في عمليات سرية". كذلك، قد يساعد التجسس إسرائيل في مواكبة الابتكارات التكنولوجية في مجال التسلح النووي وتكنولوجيا الصواريخ.

ووفق التقرير السنوي الذي أرسله "المركز الوطني لمكافحة التجسس" إلى الكونغرس عام 1997، يُعتبر "السلوك غير المناسب أثناء زيارة المنشآت الآمنة" من أشهر الطرق التي يستعملها الجواسيس الاقتصاديون الأجانب لجمع المعلومات، ويستعمل الزوار أعذاراً متنوعة للدخول إلى المنشآت الأميركية الحساسة ويستغلون تلك الزيارة لالتقاط الصور أو تدوين الملاحظات أو جلب ضيوف غير متوقعين، حتى أنهم يستفيدون من اتفاقيات مزيفة لتبادل البيانات.

يطرح هذا الوضع مشكلة خطيرة نظراً إلى التعاون الوثيق بين الأوساط العلمية الدفاعية في إسرائيل والولايات المتحدة في مشاريع مثل صاروخ "آرو"، وقد زار عدد كبير من العلماء الإسرائيليين مختبرات أميركية للأسلحة النووية في "سانديا" و"لوس ألاموس" و"ليفرمور"، وحظي الزوار الإسرائيليون بمعاملة أكثر انفتاحاً من الآخرين في معظم الأوقات، وخلال فترة عشرين شهراً فقط في أواخر الثمانينيات، زار 188 عالِماً إسرائيلياً تلك المختبرات الثلاثة.

كانت الفرص التي تسمح بارتكاب تجاوزات شائكة وافرة، ونتيجةً لذلك، شدّد "مكتب محاسبة الحكومة" على ضرورة تحسين الأمن خلال زيارة الأجانب للمنشآت الدفاعية الأميركية.

تحمل عمليات التجسس الإسرائيلية التي ترتبط بالمجال النووي وأسلحة الدمار الشامل بُعداً اقتصادياً مهماً، فبعدما اتّضحت عقيدة إسرائيل ومكانتها النووية وباتت تتطلب دمج أنظمة التحكم والقيادة مع صور الأقمار الاصطناعية، أصبح الاطلاع على أحدث التطورات في قطاع البرمجيات وتكنولوجيا الحواسيب أساسياً، وتَرافق اكتساب هذه التقنيات، بطرقٍ قانونية أو غير شرعية، مع تداعيات بارزة في مجال الاقتصاد المدني.

الولاء المزدوج

لا تحمل مسألة الولاء المزدوج أبعاداً مشابهة للقضايا التي تُهدد الأمن القومي، لكنها جزء من التجسس الاقتصادي، إذ ظهرت هذه المشكلة أيضاً خلال حملة لصياغة تشريع يهدف إلى تقوية إجراءات حماية الأسرار التجارية في عام 1996، وكجزءٍ من الجهود الرامية إلى زيادة الوعي حول التجسس الاقتصادي في أوساط الاستخبارات كلها، حضّر "جهاز التحقيق الدفاعي" ملفاً عن إسرائيل، وبعد التطرق إلى "تعطّش" إسرائيل لجمع المعلومات حول تقنيات الدفاع الأميركية، ذكر الملف أن مظاهر "الاستهداف العرقي" و"الروابط العرقية القوية في الولايات المتحدة تجاه إسرائيل" هي التي سهّلت عمليات جمع المعلومات الإسرائيلية.

ويذكر تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1979: "تتكل الاستخبارات الإسرائيلية بشدة على مختلف الجماعات والمنظمات اليهودية في الخارج لتجنيد العملاء وكشف المخبرين، وتُبذَل جهود كبرى لتأجيج النزعات اليهودية العرقية أو الدينية".

يشعر الأميركيون اليهود بالقلق من احتمال التشكيك بوطنيّتهم، بسبب الادعاءات أو التلميحات المرتبطة بالولاء المزدوج الذي يحمله بعض المواطنين، وهم محقون في مخاوفهم، فقد كشف استطلاع مشترك بين "سي بي سي نيوز"، و"نيويورك تايمز" في عام 1987 أن 33 في المئة من الرأي العام يظن أن اليهود الأميركيين يهتمون بمصالح إسرائيل أكثر من المصالح الأميركية، ووصلت هذه النسبة إلى 35 في المئة، وفق استطلاع آخر أجرته "رابطة مكافحة التشهير في بناي بريث" في عام 1992، وبقيت هذه النتائج شبه ثابتة في آخر ثلاثين سنة، وهي تكشف أيضاً أن 20 في المئة من الأميركيين لا يعرفون الجهة التي يبدي اليهود ولاءهم لها.

عملياً، يرتفع عدد اليهود في أعلى مناصب الأمن القومي الأميركي، ونادراً ما يتطرق الناس إلى هذه المسألة، لكن إسرائيل لا تدرك على ما يبدو أن عملياتها غير الشرعية قد تترافق مع تداعيات كبرى على الشتات اليهودي، وفي هذا المجال أيضاً، تبرز الحاجة إلى الحفاظ على مجتمع حر ومنفتح ومتعدد الانتماءات العرقية من خلال إقامة التوازن المناسب بين إجراءات المراقبة، والتأكد من الادعاءات الشائكة وتطبيق تدابير أمنية حذرة.

التجسس والاقتصاد القائم على التكنولوجيا

مع تطوّر الأولويات الوطنية الإسرائيلية، تبذل الحكومة قصارى جهدها لتسويق قطاع تكنولوجي مُوجّه للتصدير، وهو يشمل برمجيات قوية، وخدمات إنترنت، وشركات متخصصة بالتكنولوجيا الحيوية، وابتكارات أخرى، ويشبه جزء من الظروف الكامنة وراء المبادرات الراهنة تلك التي تزامنت مع تطوير قطاع الأسلحة والبرنامج النووي في إسرائيل خلال الخمسينيات والستينيات، حين كان البلد يعجز عن تطوير أي أسلحة نووية وتصنيع معدات متقدمة من دون الاستحواذ على تقنيات ومعلومات خارجية بطريقة غير شرعية.

لضمان ازدهار البلد عبر شركات تصميم البرمجيات ومختبرات الاتصالات، يجب أن تتجاوز إسرائيل دخولها المتأخر نسبياً إلى المنافسة الدولية في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، ورغم نجاح بعض الاكتتابات العامة الأولية، لا يملك قطاع التكنولوجيا المدنية في إسرائيل رصيداً كبيراً لاستثماره في برامج مكلفة للأبحاث والتطوير، كما أن تباطؤ عملية السلام تكبح الاستثمارات دوماً. قد يؤدي إيقاع الابتكار التكنولوجي إلى تصاعد المخاطر التي تمنع توسيع الاستثمارات وتطوير منتجات جديدة، كذلك، تتباطأ الأبحاث العلمية العسكرية في دولٍ مثل إسرائيل بسبب هجرة أهم العلماء، وغياب الدعم التقني الكافي، وتراجع الأوساط العلمية نسبياً، وصعوبة جذب أفضل المبتكرين لإجراء أبحاث تطبيقية حول الأسلحة، وتشير هذه العوامل مُجتمعةً إلى أهمية التجسس الاقتصادي حتى الآن في القطاعات المدنية والدفاعية معاً.

عملياً، تتعدد الاعتبارات التي تُمهّد لكبح نزعة إسرائيل إلى سرقة الابتكارات من الشركات الأجنبية، وتستفيد الشركات الإسرائيلية في النظام العالمي الجديد من وصولها إلى العملاء الدوليين ومصادر الرساميل المحتملة والمشاريع المشتركة أكثر من أي جهة أخرى، وهو وضع كان مستحيلاً مع برنامجها النووي، وزاد المصاعب التي واجهها قطاع الأسلحة التقليدية محلياً في بداياته، كذلك، أنتج قطاع الدفاع المبتكر في إسرائيل تقنيات مفيدة ومزدوجة الاستخدام لمصلحة قطاعاتها المدنية.

مع ذلك، تبدو الفرص والحوافز التي يقدّمها التجسس الاقتصادي مغرية، وتؤكد وزارة التجارة الأميركية "تعطّش" القطاعات القائمة على التكنولوجيا في إسرائيل لتنفيذ مشاريع مشتركة مع الشركات والحكومة في الولايات المتحدة. في منطقة "سيليكون فالي"، تتعدد المؤسسات التي تملكها إسرائيل أو تديرها، وتوظّف الشركات الأميركية عدداً كبيراً من المهندسين الإسرائيليين، فهذا الوضع يُسهّل "سرقة الأدمغة والأفكار".

يعمل إسرائيليون في مكتب شركة "ميل باد" في منطقة "سيليكون فالي"، وفي هذا السياق، تكتب صحيفة "هآرتس": "تشمل جميع شركات هذه المنطقة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، عدداً من الموظفين الإسرائيليين"، وقد يصل عددهم إلى 200 ألف موظف، ويقول أحدهم: "الوضع سهل للإسرائيليين. نحن نشعر أننا انتقلنا إلى مدينة أخرى، لا بلد آخر، والجميع هنا يجيد اللغة العبرية، فقد أصبح ابني في الصف الثالث، ويشمل صفه 20 طفلاً، نصفهم إسرائيليون"، ويذكر تقرير صادر عن "وكالة التلغراف اليهودية": "يعتبر معظم الخبراء التقنيين إسرائيل وطنهم". يوضح أحد مؤسسي "منتدى الرؤساء التنفيذيين والمؤسسين الإسرائيليين": "نحن نجد صعوبة إضافية في التكيّف مع هذا المكان. إذا قلتُ إني أميركي فسيطلقون عليّ أحكاماً مختلفة، أنا إسرائيلي وأريد أن يذهب أولادي إلى الجيش"، ويقال إن بعض التقنيين الإسرائيليين على صلة بوحدة التجسس السيبراني رقم 8200.

كذلك، تقدّم الحكومة الأميركية بنفسها أهدافاً واعدة إلى الاستخبارات الإسرائيلية، وبحلول عام 1997، كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تتجهان نحو عقد اتفاقيات جديدة في جميع المجالات، بدءاً من الأبحاث الأساسية وصولاً إلى اختبار النماذج الأولية بناءً على "مشاريع البحث والتطوير التكنولوجي" المشتركة، فتتعدد مجالات التعاون المحتملة، منها إلكترونيات الطيران، ومشاريع لتطوير الأسلحة، وأنظمة بالليزر لتحديد الأهداف، فقد وافقت إسرائيل صراحةً على عدم نقل التكنولوجيا من هذه المشاريع المشتركة إلى أطراف ثالثة من دون أخذ موافقة مسبقة من الولايات المتحدة. يمنع "قانون مراقبة تصدير الأسلحة" عمليات إعادة التحويل غير المصرّح بها أصلاً، لكن إسرائيل انتهكت هذا القانون والتزامات سابقة ترتبط بإعادة نقل التكنولوجيا في مناسبات متكررة.

وبعيداً عن هذه العوامل، يُفترض أن تضمن العادات والمهام المؤسسية أن تتابع وحدات الاستخبارات الإسرائيلية استعمال الشبكات القائمة لجمع المعلومات الاقتصادية، تزامناً مع تطوير شبكات جديدة لتلبية الحاجات المدنية. في هذه الحالة، قد تصبح المعلومات السرية المرتبطة بقطاع الأعمال، لاسيما المعلومات المالية، وعروض المنافسين، ولوائح العملاء، وخطط التسويق، أهدافاً مهمة بقدر البيانات التقنية والعلمية، ومن المتوقع أن تسهم أشكال جديدة من جمع المعلومات الإلكترونية في تحسين قدرات إسرائيل في هذا المجال.

الرد الأميركي

على غرار شركات الدفاع في معظم الدول الأجنبية، ترتبط الشركات الإسرائيلية بعلاقة وثيقة مع الحكومة، وهي تنافس الشركات الأميركية في السوق الدولي، وباستثناء مصر، تُعتبر إسرائيل الدولة الوحيدة التي تحظى بدعمٍ هائل من الولايات المتحدة في قطاع الدفاع اليوم، وإلى جانب المساعدات الأميركية التي فاقت قيمتها 76 مليار دولار على مر السنة المالية 1998 (بلغت نسبة المساعدات الأمنية فيها أكثر من 90 بالمئة)، تتابع الحكومة الأميركية، ولا سيما "الكونغرس"، منح إسرائيل امتيازات استثنائية، مما يؤدي إلى تفوّق الشركات الإسرائيلية مقابل تراجع الشركات الأميركية في سوق الأسلحة الدولي. في غضون ذلك، تنفذ إسرائيل حملة عدائية من التجسس الاقتصادي ضد الشركات الأميركية، لكن لم تنتج هذه الحملة ردة فعل قوية من الحكومة الأميركية يوماً... ما السبب؟

تبقى الحالة الإسرائيلية فريدة من نوعها على مستويات عدة، لكنّ الرد الأميركي الباهت أو الغائب على السرقة الاقتصادية ليس غريباً، فمن بين الدول التي تستهدف الأسرار الاقتصادية الأميركية وفق تقييم "المركز الوطني لمكافحة التجسس"، يصعب تحديد حالة واحدة جعلت العلاقات تنقطع بين الدول بسبب التجسس الاقتصادي، وهذا ما يحصل حين يكون المذنب حليفاً مقرباً من البلد، وفيما يخص إسرائيل بشكل عام، قالت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت يوماً: "لا أحد يستعمل أوراق ضغط مع الأصدقاء".

لكن لا تقتصر المشكلة على التردد في معاقبة أحد الحلفاء، إذ ينتقد أعضاء فرديون في "الكونغرس" حلفاء مثل فرنسا أو اليابان من وقتٍ لآخر بسبب تجسّسهما الاقتصادي، في حين يلتزم الجميع الصمت تجاه إسرائيل حين تتصرف بالطريقة نفسها، ونادراً ما يفرض "الكونغرس" بحد ذاته أي عقوبات ضد حليف معيّن بسبب تجسّسه على الولايات المتحدة، لكن يعطي "الكونغرس" الأولوية دوماً لمصالح إسرائيل ويحميها رغم انتهاكاتها الفادحة للقانون الأميركي. لهذا السبب، يُفترض أن يشتق أي تفسير للرد الأميركي المعتدل على التجاوزات الإسرائيلية من تحليل عميق للعملية السياسية في الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى التردد في لوم الحلفاء وإصرار "الكونغرس" على حماية إسرائيل، يفسّر عامل ثالث الرد الأميركي المعتدل على هذه الممارسات، وهو يتعلّق بالرابط الاستراتيجي المميز بين البلدين، ورغم الشكوك الجدّية في الأوساط البيروقراطية للأمن القومي الأميركي فيما يخص أهمية إسرائيل الاستراتيجية، اتخذت العلاقة الاستراتيجية طابعاً رسمياً بحلول عام 1983، ثم اكتسبت عمقاً إضافياً وأهمية متزايدة مع مرور الوقت، فقد ترسّخت هذه المكانة المستجدة في عهد بيل كلينتون بفضل العمليات المشتركة لمكافحة الإرهاب وبرامج الأبحاث الدفاعية، والتحذيرات الموجّهة إلى إسرائيل عبر الأقمار الاصطناعية الدفاعية الأميركية، وزيادة التمويل الأميركي لصاروخ آرو الإسرائيلي.

يتعلق عامل رابع بقانون التجسس الاقتصادي الصادر عام 1996، ويُسهّل هذا القانون ملاحقة الجواسيس الاقتصاديين، لكنه يعاقب الأفراد، لا الدول، وهو لا يذكر شيئاً عن العقوبات ضد الدول المخالِفة، بعبارة أخرى، لن تكون الملاحقات الجنائية والحملات الدعائية والمساعي الدبلوماسية وحدها كافية لكبح التجسس الاقتصادي المنهجي والمدعوم من الدول، لا سيما إذا كانت الدولة المعنية هي إسرائيل، وتَقِلّ المؤشرات التي تثبت أن واشنطن مستعدة سياسياً اليوم لفرض عقوبات ثقيلة واستعمالها كنظام ردع جدير بالثقة.

ففي مايو 1997، كشفت التقارير أن وكالة الأمن القومي اعترضت اتصالات بين مسؤولين من الاستخبارات الإسرائيلية ذكروا مسؤولاً أميركياً يحمل الاسم المشفّر "ميغا"، وكان ينقل معلومات دبلوماسية حساسة إلى إسرائيل بطريقة غير شرعية، وهذه الحادثة أكدت الشائعات المنتشرة منذ وقتٍ طويل في هذا المجال، لكن رفض المسؤولون الإسرائيليون الاعتراف بأن "ميغا" جاسوس، ثم اختفت هذه المسألة من الأوساط العامة وتلاشى معها احتمال أن يعوق التجسس العلاقات الأميركية الإسرائيلية.

أخيراً، قد ينجم ضعف الرد الأميركي على عمليات التجسس الإسرائيلية عن شكلٍ من التساهل أو مفارقة ساخرة تُعبّر عنها عبارة "الجواسيس الأصدقاء". قال واحد من أبرز مهندسي السياسة الاستخبارية الأميركية عام 1996: "عند التعامل مع إسرائيل، تقضي المقاربة المعتمدة دوماً بالقبض عليها ثم الانسحاب سياسياً".

في النهاية، يبقى تجسّس إسرائيل الاقتصادي جزءاً من لعبة الأمم، لكنّ وقاحة ممارساتها فريدة من نوعها، ولا تتعلق أكبر المخاوف في هذا المجال بتصرف إسرائيل في حد ذاته، بل بخضوع كبار المسؤولين والمشرّعين الأميركيين لها، وهذا الجانب من "العلاقة المميزة" مع إسرائيل يزعج، أو حتى يثير استياء، معظم البيروقراطيين الدائمين في قطاع الأمن القومي، ويعكس هذا الوضع أيضاً مشكلة سياسية كامنة محلياً، وقادرة على تعميق الانقسامات. بغضّ النظر عن المنافع الفورية التي تضمنها ممارسات إسرائيل غير القانونية، قد تؤدي تلك التجاوزات في نهاية المطاف إلى إضعاف هذه العلاقة الثنائية القديمة التي تشكّل أهم ضمانة لأمن إسرائيل.

* "https://israelpalestinenews.org/

موقع الأخبار الإسرائيلية - الفلسطينية"

إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي يعتمد فيها قطاع الدفاع على دعمٍ هائل من الولايات المتحدة ولا يملك أي بلد غيرها شبكة معلومات أكثر فاعلية داخل السلطة التنفيذية الأميركية

لدى الاستخبارات المركزية تقرير عام 1979 يؤكد أن نظيرتها الإسرائيلية تعتمد بشدة على مختلف الجماعات والمنظمات اليهودية في الخارج لتجنيد العملاء وكشف المخبرين

بعض أعضاء «الكونغرس» ينتقدون حلفاء كفرنسا أو اليابان من وقتٍ لآخر بسبب تجسّسهما الاقتصادي لكن الجميع يلتزم الصمت تجاه إسرائيل حين تتصرف بالطريقة نفسها

«سي بي سي نيوز» و«نيويورك تايمز» كشفتا عام 1987 في استطلاع مشترك أن 33٪ من الرأي العام يظن أن اليهود الأميركيين يهتمون بمصالح إسرائيل أكثر من المصالح الأميركية
back to top