فاروق الفيشاوي... «برنس السينما المصرية» (7 - 10)

اختطاف النجم «المُدمِن» من المنزل إلى المستشفى

نشر في 17-05-2021
آخر تحديث 17-05-2021 | 00:04
كادت الأضواء تنحسر عن الفنان فاروق الفيشاوي، وتعثرت رحلته مع النجومية والتألق في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وسقط في هاوية الإدمان تسعة أشهر، وغامر بنجاحاته السابقة، وتدهورت حالته الصحية، وبات مهدداً بالإفلاس، وبعد تعافيه من غواية السموم المدمرة، قرّر أن يواجه جمهوره باعترافات صادمة حول أصعب تجربة مر بها في حياته، وتوالت صفحات جديدة من رحلة الفنان المشهور.

فقد الفيشاوي ألقه الفني، وصارت «جرعة الهيرويين» ترمومتر حياته اليومية، وموعدها أهم من الالتزام بمواعيد تصوير أفلامه، واكتفى خلال تلك الفترة بعمله في مسرحية «شباب امرأة»، وكان مجرد آلة تمارس دورها على المسرح، ثم يفلت هارباً إلى داخل الحجرة المغلقة ولا يغادرها إلا عندما ينادونه، وفي كل يوم تتكرر النداءات، ولا يدري هل كان مقنِعاً بأدائه شخصية الشاب الريفي الذي يصطدم بعالم المدينة، أم أن الجمهور في نهاية العرض يصفق مجاملة للنجم «المدمن»!

وسط أجواء الإدمان تبدلت حياة فاروق الفيشاوي تماماً، وفقد إحساسه بالزمن، وعلاقته بالطعام كانت تقريباً مرة كل يومين، ولا يدرك شيئاً من حوله سوى ندماء السوء، ويسهر معهم لتعاطي الهيرويين، وكان من الضروري أن يكونوا جميعاً من «فئة المدمنين»، فقد تعرّف إلى أنواع كثيرة من البشر، لكن ليس بينهم أحد من أهل الفن، بل فئات أخرى، وكانت جرعة السموم لا تستغرق أكثر من ثلاث دقائق، وبعدها يشعر أنه واعٍ، لكنه غير مكترثٍ بالعالم من حوله، ويفيق بعد زوال أثر المخدر على آلام تنهش بقوة في جسده.

وتحوّل الفتى الوسيم إلى شخص آخر لا يعرفه في المرآة، ونومه لا يتجاوز ثلاث ساعات، يفتح بعدها عينيه متلهفاً إلى رائحة السموم في أنفه، والقفازات الحديدية تحجب عنه أقرب الناس إليه، ولا يطيق أن يجادله أحدٌ، وأصبح أهم شخص لديه، ذلك الذي يشتري له السُّم، ويطالبه يوماً بعد يوم بالمزيد من المال، وبدأ يفتش جيوبه ويقلبها بحثاً عن الثمن، وكما يحترق مسحوق الهيرويين ويتبخر كذلك احترق رصيده في البنك وبدأ يتبخر...!

ولم يكن رصيده المادي وحده الذي يتضاءل ويختفي، بل كانت هناك أرصدة أخرى بدأت تحترق. كان وزنه قد انخفض، وظهرت عليه علامات الهزال، وفي شهر واحد فقد 11 كيلوغراماً، وبدأ يرى صورته في نظرات الآخرين المعبرة عن الشفقة والأسف، ويخشى على نفسه من وقعها على نفسه، وأصبح إلى جانب عيون بائعي «الهيرويين» التي تلاحقه يرى عيوناً أخرى تطل من وجوه كل الذين كانوا يرون شحوبه وقوامه الناحل، ووجهه الذي افتقد نضارته رغم أنه كان يخفيه وراء لحية أطلقها استعداداً لدور في مسلسل تلفزيوني، ورغم تأجيل تصويره، فإنه احتفظ بلحيته الطويلة، ليختفي وراءها من عيون الآخرين.

وبدأ الفنان الذي صعد سُلَّم النجومية بسرعة الصاروخ، يدرك أنه على حافة الخطر، واستشعر هزاله وضعفه وإفلاسه، وللمرة الأولى أراد أن يهرب من العيون التي تطارده وأصبح عبداً لها من دون أن يفكر في التمرد، وكانت تملي عليه أوامرها فيستجيب لها من دون أي مقاومة، وفجأة شعر أنه يريد أن يقاوم... أن يرفض... أن يقول لا... ولكنه ضعيف... هزيل... ثم إنه بدأ يفقد قدرته على التركيز بل قدرته على مجرد النطق... كان يفتح عينيه جيداً ويسدّد السيجارة المشتعلة بين أصابعه إلى المنفضة، كأنه يريد أن يفقأ العيون التي تطل منها، كما تطارده من أي مكان يتجه إليه، وفي كل مرة كان يخطئ التصويب.

الغرباء والمصيدة

وجاءت اللحظة الحاسمة في تلك التجربة المدمرة، وكان الوقت ظهراً، حين استيقظ الفيشاوي من نومه، واتجه إلى الحمّام كعادته، وأخذ جرعة الهيرويين وبعدها تراءت له خيالات وصور غريبة، ورأى أربعة غرباء أمامه، ولا يدري هل كان في منزله أم في الاستوديو يصوِّر فيلماً أم أنه يصارع كابوساً مفزعاً، وتوالت المشاهد ببطء شديد، وسألهم عن هويتهم، فاقتربوا منه، وقيدوا حركته، وأخرج أحدهم حقنة غرزها سريعاً في ذراعه، ثم اختفى كل شيء.

أفاق الفيشاوي ليجد نفسه راقداً فوق فراش في غرفة أنيقة ذات نافذة حديدية، ونظر حوله في دهشة، وأدرك أنه ليس في منزله، ولا يبدو أنها زنزانة في أحد السجون، وتذكر أنه تعرّض لعملية اختطاف، وغاب عن الوعي بعد أن غرزوا الحقنة في ذراعه، ولم يعرف إلا فيما بعد، أنه أمضى ثلاثة أيام كاملة في نوم عميق، وأنه بعد ساعة أو أقل عاد لينام من جديد، كان يريد أن ينام، لقد سهر كثيراً، وجاء الوقت الذي يستريح فيه جسده المنهك منذ أن سقط في هاوية الإدمان.

وبعد مرور 24 ساعة أخرى، فتح فاروق عينيه مُجدداً، وشعر بأشواك توخز جسده، وحاول أن يطردها بخيالات بعيدة يجري وراءها، ويتذكر عندما كان طالباً في كلية الآداب، وشارك فريق التمثيل في مسرحية «المصيدة» للكاتبة الإنكليزية أجاثا كريستي، وقال له المخرج عبدالرحيم الزرقاني: «نصيحتي لك الالتحاق بمعهد التمثيل»، وقرّر أن يجمع بين الكلية والمعهد، وها هو يترك كلية الآداب ويتجه إلى التمثيل.

في تلك اللحظات، كان الفيشاوي راقداً على فراش غريب، ويقاوم وخز الأشواك المؤلمة باستعادة تلك الذكريات، ويجري وراءها ويشدها ناحيته، وتذكر عندما استُدعِي وهو في السنة الأخيرة بالمعهد لتمثيل رواية «سندريلا» على مسرح الطفل، وقدموا له البطلة التي ستقوم بدور «سندريلا» الطالبة بالسنة الأولى في كلية الآداب، واسمها سمية الألفي، وتزوجها بعد قصة حب كبيرة، وصارت «سندريلا» الحياة.

وللمرة الأولى بدأ يبكي، ووخز الأشواك يذكره بسقوطه في هاوية الإدمان، وتذكر ابنه أحمد، الذي كان عمره سبع سنوات في ذلك الوقت، والذي يعشق التمثيل، وشقيقه عمر... هل بدأ ينطق ويقول «بابا»؟... إنه لا يزال في سن تسعة أشهر... قطعة اللحم الطري... أحمد وعمر أين هما؟ وأخيراً عرف أنه في داخل مستشفى خاص يقع بعيداً عن قلب القاهرة، وأن زوجته «سندريلا» هي التي رتبت خطفه من بيته بهذه الصورة، واختارت أن تتم عملية الخطف هذه في يوم ذكرى مولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، كأنها أرادت لزوجها أن يبدأ حياة جديدة في يوم لا يُنسى.

تلك المرة لم يهرب الفيشاوي من برنامج العلاج، وكان صادقاً في وعده بالخروج من سجن العيون التي كانت تطارده، ويريد أن يعود إلى زوجته الحبيبة وولديه، ويستأنف حياته بشكل طبيعي مع أهله وأصدقائه الحقيقيين، ويضبط مواعيد عمله في الاستوديو وأمام عدسات التصوير، ويفتح النوافذ لينسل منها ضوء الشمس، ويرى جمال العالم من حوله، ويعوِّض شهور الحرمان في غرفة مغلقة مع هلاوس وخيالات الإدمان.

طريق الشفاء

اختفى فاروق الفيشاوي عن الأنظار، واستطاعت زوجته أن تُحكِم الحصار حوله، وتمنع تماماً، بالاتفاق مع إدارة المستشفى، أي زيارة له، وأشاعت أنه سافر إلى الخارج للعلاج، ولا تعرف عنه شيئاً، واستسلم زوجها هذه المرة للعلاج، بل كان سعيداً بانتشاله من تلك الهاوية، وتحمل الآلام الشديدة للانسحاب التدريجي للسموم من جسده، وفي كل يوم كانت تزيد مقاومته، ويدرك أنه سيخوض رحله صعبة في طريقه إلى الشفاء.

كان الفيشاوي محظوظاً، لأن هناك من يستغرق علاجهم 20 شهراً ولا ينجح معهم ذلك العلاج... ونسبة نجاج العلاج معهم لا تتجاوز في أحسن الأحوال 20 في المئة، و80 في المئة تقريباً من المدمنين لا يشفون، بينما مكث هو 20 يوماً فقط في المستشفى، وتماثل للشفاء، وعاد مرة أخرى إلى منزله، واسترد شعوره بالدفء الأسري مع زوجته وولديه، ورأى الفرق في عيون الناس، وأدرك أنه استرد «فاروق» الإنسان والفنان المتوهج مرة أخرى.

بعد عودته من رحلته الرهيبة، أراد أن يقف فوق أعلى مكان ويتحدث إلى كل شاب، وكلهم في رأيه «أحمد وعمر» يقول لهم جميعاً بكل الحب والإخلاص: حذار من محاولة المغامرة أو المخاطرة بتجربة أي مخدر والهيرويين بالذات، ولا تصدقوا ما يُقال لكم عن نشوة يثيرها، فكل آثاره أنه يقبض على مَنْ يتعاطاه، ويتعامل معه بذراعين فولاذيتين كأنه لا يريد أن يترك المتعاطي إلا في السجن أو مستشفى الأمراض العقلية أو أي نهاية مأساوية.

فى فترة الإدمان اعتزل الفيشاوي أصدقاءه كما اعتزل الحياة، وهرب من العمل، وأصبح ليله نهاراً، وأضحى نهاره نصف ليلٍ، فالهيرويين لا يترك فرصة لمتعاطيه للتفكير، ولا شيء يستطيع المدمن أن يفكر فيه سواه، وتتلاشى في داخله عاطفة الأبوة والأمومة والأخوة، وكل مشاعره تتركز في كيفية حصوله على المخدر، وبعد ذلك لا يكترث بأي شيء.

الفيشاوي والألفي معاً في المواقف الصعبة
كان وجود الفيشاوي في حياة الفنانة سمية الألفي بمثابة الحياة لها، على الرغم من انفصالهما منذ سنوات طويلة، فقد ظل بالنسبة إليها الأب والأخ والصديق والحبيب، وكانت دائماً ما تشعر بالاطمئنان وهو على قيد الحياة، رغم قلة اللقاءات بينهما في السنوات الأخيرة، وكلما تذكرته تحدثت عن وفائه وشهامته، ودعمها في أصعب الظروف التي واجهتها.

والحقيقة أن الفيشاوي كان إلى جوارها دائماً، بل إنها فوجئت بعد وفاته أن هناك بيوتاً تعيش بدعم مالي منه، وقررت أن تكمل الأمر من بعده.

وأجرت الألفي 5 عمليات جراحية، وكان دائماً موجوداً بجانبها سواء خارج مصر أو داخلها، منها جراحة كان موعدها في التاسعة صباحاً، وتوجهت إلى المستشفى، فوجدت الفيشاوي نائماً في الجناح الخاص بها، فقد خشى أن ينام في منزله فلا يستطيع الاستيقاظ في الصباح، لذلك قضى ليلته في انتظار وصولها.

وظلت علاقة الثنائي وطيدة حتى اللحظات الأخيرة من حياة الفنان الراحل، وكان من الصعب أن تعود علاقتهما الزوجية مرة أخرى، وكان الفيشاوي يردد دائماً أنه لا يصلح للزواج، ويفضل أن يكون مثل الطير، واتخذت علاقتهما مساراً آخر من الدعم في المواقف الصعبة، وكلاهما يجد الآخر بجانبه.

وكانت إمكانياته المادية تسمح له بأن يشتريه، وأن يدفع ثمناً له 600 جنيه يومياً، ورغم مكاسبه الكبيرة فقد تبخر من يديه المال، ولكن ماذا يفعل أي شاب أدمنه ولا يجد ثمنه، وهنا خطر الهيرويين على مدمنه وعلاقته بالناس، ويتحوّل إلى مجرم أو لص وربما قاتل من أجل ثمن الجرعة المميتة.

وكان الفيشاوي محظوطاً بإفلاته من قبضة الإدمان، وعندما روى تجربته لم تكن حكاية للتسلية، وإنما لتكون هادياً لشباب بلده، أن يحترس من الخطر، وفي ذلك الوقت أكد النجم السينمائي أنه على استعداد أن يمد يده لمن يريد أن يبذل الجهد في مقاومة هذا الشبح المدمر، واعتبر أن علاج المدمن لا يمكن أن يتم بعيداً عن المصحات المتخصصة، ولكن العلاج مكلف وغال، ويجب أن يسهم المجتمع في توفير سبل العلاج وإقامة المصحات، وأن تتضافر الجهود لحماية الشباب، ولا يجب النظر إلى علاج المدمن كوصمة عار، بل منحه طاقة إيجابية للمقاومة، والمضي في طريق الشفاء.

اعتراف الفيشاوي بإدمانه وإقلاعه عن المخدرات جعله محل تقدير من جانب جمهوره العريض وكذلك زملائه الفنانين سواء من أبناء جيله أو الأجيال الشابة، فلا يكاد يخلو أرشيف ذكريات أي فنان أو فنانة من صورة تذكارية واحدة على الأقل التقطها مع برنس السينما المصرية، حتى وإن لم يجمع بينهم وبينه أي عمل فني.

أحمد الجمَّال

شبح الإفلاس يطارد الممثل المتألق في كواليس المسرح

الفنان المحظوظ يتعافى من لعنة الإدمان بعد 20 يوماً فقط

الفيشاوي يقاوم آلام السموم المدمرة بتذكُّر ابنيه أحمد وعمر

«السندريلا» تحاصر النجم المدمن في مصحة علاجية
back to top