إلى أي حد يتصدى الاتحاد الأوروبي للصين؟

نشر في 07-05-2021
آخر تحديث 07-05-2021 | 00:00
استثمارات الصين في الاتحاد الأوروبي تشق طريقها
استثمارات الصين في الاتحاد الأوروبي تشق طريقها
يحمل الاتحاد الأوروبي سمعة سيئة في معظم التحليلات السياسية الناطقة باللغة الإنكليزية، ففي نظام دولي بات معرّضاً للصراعات أكثر من أي وقت مضى ويزداد اضطراباً بسبب تنامي نفوذ الصين وإصرار الولايات المتحدة على تفوّقها العالمي، يبدو الاتحاد الأوروبي محرجاً في أفضل الأحوال ويتحمّل انتقادات كثيرة لأسباب متنوعة، بدءاً من قلة الكفاءة وغياب وحدة صفوفه، وصولاً إلى سوء أحكامه الاستراتيجية، ويوحي هذا الوضع بأن الاتحاد الأوروبي ليس مؤهلاً لمواجهة الأحداث التاريخية.

يكون هذا النوع من الانتقادات مبرراً أحياناً، لكنه يغفل في حالات أخرى عن جزء من الأحداث الميدانية ويسيء فهم طبيعة الاتحاد الأوروبي وطريقة عمله، ففي المقام الأول، يجب أن يتذكر الجميع أن الاتحاد الأوروبي ليس دولة فدرالية، بل منظمة دولية تشمل عدداً من الدول المستقلة، فقد نشأ هذا الكيان في الأصل لضمان سلام دائم بين أعضائه ولتوسيع الازدهار من خلال تحرير التجارة، حيث نجح الاتحاد في تحقيق هذه الأهداف على أكمل وجه، إذ لم يكن فرض النفوذ الجيوسياسي جزءاً من واجباته حتى الفترة الأخيرة، وهو يحتاج إلى بعض الوقت كي يتكيف مع هذا الدور المستجد.

على صعيد آخر، قد يكون الاتحاد الأوروبي أكثر فاعلية مما يظن الكثيرون لأن عناوين الأخبار تغفل عموماً عن نتائج نشاطاته أو تُنسَب هذه النتائج إلى الحكومات الوطنية في الدول الأعضاء، ويُعتبر تقييم الاستثمارات خير مثال ذلك، وحتى عام 2019، لم يكن الاتحاد الأوروبي يملك آلية إقليمية لتقييم عروض الاستثمارات الخارجية المباشرة، فقد كان عدد من الدول الأعضاء يطبّق آليات وطنية مبنية على معايير وإجراءات متنوعة، في حين افتقرت دول أخرى، مثل بلجيكا أو اليونان، إلى أي إجراءات مماثلة. أدت موجة من الاستثمارات الصينية المتزايدة بين العامين 2013 و2016 إلى إطلاق نقاش حول مخاطر الاستثمارات الخارجية، لا سيما تلك القادمة من دولة استبدادية، وكانت مقتنيات الصين في شركات التكنولوجيا والبنى التحتية الأساسية كفيلة بتأجيج المخاوف في بعض الأوساط من احتمال توسّع تأثيرها السياسي وتهديدها للقدرة التنافسية على المدى الطويل، ولهذا السبب، اقتنعت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بضرورة أن يبذل الاتحاد الأوروبي ككل جهوداً إضافية لتنسيق طريقة مراقبة الاستثمارات، وطلبت من المفوضية الأوروبية إعداد قانون لتقييم الاستثمارات عبر رسالة مفتوحة في عام 2017.

أصبح القانون الجديد ساري المفعول في أبريل 2019 وبدأ العمل به فعلياً في 11 أكتوبر 2020، بعد فترة سماح تُمكّن الدول الأعضاء من إتمام متطلبات إنجاز التقارير، حيث يتعلق أبرز بند في هذا القانون بتكليف الحكومات الوطنية باتخاذ قرار قبول أو رفض أي استثمار في إحدى دول الاتحاد الأوروبي، ويستطيع الاتحاد الأوروبي أن يصدر توصيات حول قبول العرض في بعض الحالات، إذ تفرض هذه الآلية شرطاً واحداً يتعلق بتقاسم المعلومات، وبعبارة أخرى يُطلَب من الحكومات أن تبلغ المفوضية بطبيعة قواعد التقييم المعمول بها وتكشف للدول الأعضاء الأخرى القرار المرتبط بتقييم أي عرض استثماري، فالظروف السياسية حينها لم تسمح بفرض قانون أكثر قوة لأن الدول الأعضاء لم ترغب بكل بساطة في التخلي عن سيطرتها الوطنية على الاستثمارات، ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي فرض هذا القرار عليها بما أنه ليس دولة فدرالية.

نظراً إلى محدودية هذا القانون، يسهل أن نستنتج أن إطار العمل لن يكون فاعلاً على الأرجح بشكله الراهن، إنه الاستنتاج الذي توصّل إليه أيضاً تيد بروموند من "مؤسسة التراث"، لكن القصة لا تقف عند هذا الحد، فالاتحاد الأوروبي لا يستطيع بذل جهود كثيرة على مستوى التقييم، لكنّ الدول الأعضاء فيه قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة وقد بدأ دورها يتوسّع في هذا المجال، ومنذ عام 2017، طُرِحت أو صُمّمت آليات جديدة لتقييم الاستثمارات في تشيكيا، والمجر، وهولندا، ورومانيا، وسلوفاكيا، ومالطا، وفي غضون ذلك عمدت ألمانيا إلى تقوية تنظيماتها الخاصة في مجال تقييم الاستثمارات الخارجية، فالاتحاد الأوروبي يريد من جهته أن يبقى منفتحاً على الاستثمارات الخارجية، لكنه بات أكثر انتقائية وقد ذكر أحد التقارير الصادرة عن "غرفة التجارة الصينية في الاتحاد الأوروبي" هذه النزعة في عام 2020.

للوهلة الأولى، لا يمكن اعتبار تقييم الاستثمارات المتزايدة من جانب الحكومات الوطنية في أوروبا مرتبطاً بعمل الاتحاد الأوروبي، وفي النهاية، لا يجبر قانون تقييم الاستثمارات الصادر عن الاتحاد أي دولة عضو على تبني تنظيمات خاصة بها، لكن تسمح النقاشات الدائمة بين الدول الأعضاء على جميع المستويات بإطلاع مختلف الحكومات على مسائل ما كانت لتفكر بها كثيراً في الحالات العادية. هذا المثال يجسّد حقيقة دور الاتحاد الأوروبي في الشؤون الخارجية: تنسيق الجهود وتقاسم المعلومات، وتسهيل تلاقي السياسات في المسائل التي تحمل مصلحة مشتركة لجميع الأطراف.

حين تفشل هذه الآلية، كما يحصل مثلاً عندما تقف دولة عضو ضد موقف مشترك، يسهل أن تنتشر أخبار سلبية عن عمل الاتحاد. قد يكون النموذج المعتمد فاعلاً، لكن يصعب رصد نجاحاته دوماً، وفي حالات كثيرة، تتخذ الحكومات الوطنية القرارات المهمة وقد لا تصدر أحياناً قبل مرور أشهر أو حتى سنوات على تفعيل سياسة الاتحاد الأوروبي، ولا يتحرك الاتحاد بوتيرة سريعة وحاسمة بقدر الحكومات الوطنية طبعاً، لكنه ليس جامداً بأي شكل.

على صعيد آخر، تظن المحللتان صوفي مونيير وزينوبيا تشان من جامعة "برينستون" أن النظام المعتمد راهناً في الاتحاد الأوروبي لتقييم الاستثمارات قد يزيد قوة مستقبلاً، حين تتّضح حدوده، وبموجب الآلية الراهنة تستطيع الدول الأعضاء في الاتحاد أن تعبّر عن رأيها أمام دولة عضو أخرى في بعض الظروف، إذا شعرت بأن أمنها القومي (بما في ذلك الأمن الاقتصادي) أصبح مُهدداً بسبب عرض استثماري تلقّته دولة أخرى، لكن لن تضطر الدولة الثانية للالتزام بهذا الرأي، لنفترض مثلاً أن مستثمراً مريباً من خارج الاتحاد الأوروبي يريد شراء الشركة الوحيدة التي تنتج عنصراً أساسياً لقطاع السيارات في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ويقع مقرّ الشركة في سلوفاكيا. تستطيع هذه الحكومات الثلاث أن تعبّر عن رأيها الذي يدعو سلوفاكيا إلى رفض هذا العرض، وفي هذه الحالة، من حق سلوفاكيا أن تتجاهل هذا الرأي وتسمح بحصول عملية الشراء، لكن إذا أصبحت مصالح وطنية كبرى على المحك، فقد ينشأ صراع حتمي وتدعو أطراف كثيرة إلى طرح آلية أكثر تكاملاً لتقليص هامش تحرك الحكومات الوطنية ومنعها من التصرف على سجيتها. كان الاتحاد الأوروبي يعمل بهذه الطريقة في معظم الأوقات: يؤدي أي تدبير جزئي اليوم إلى تدابير أوسع نطاقاً مستقبلاً، فقد لا تبدو هذه المقاربة مثالية، لكن يصعب أن تُنسّق 27 دولة سياساتها حول المسائل المهمة، ولم يبرز حتى الآن أي نموذج أفضل لتحقيق هذا الهدف.

تُشدد الاستراتيجية الخاصة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ في ألمانيا (أكبر دولة منتسبة إلى الاتحاد الأوروبي) والوثائق المرتبطة بسياسة دول أصغر حجماً (مثل السويد وهولندا) تجاه الصين على أهمية تكثيف العمل عن طريق الاتحاد الأوروبي لتحقيق الأهداف الوطنية بما يتماشى مع التطورات الحاصلة في آسيا، وهذا الوضع يعكس تغيراً بارزاً عن ظروف المنافسة في حقبة الحرب الباردة، حين كان "المجتمع الاقتصادي الأوروبي" (سلف الاتحاد الأوروبي) يمتنع عن التحرك في مسائل السياسة الخارجية إلا في حالات نادرة، وكانت دول أوروبا الغربية تتطلع إلى حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة باعتباره الأداة الأساسية للاحتماء من الاتحاد السوفياتي، ولكن في العصر الجيوسياسي الجديد، يبدو الاتحاد الأوروبي مُصمّماً لأداء دور محوري في السياسات الخارجية الخاصة بالدول المنتسبة إليه، إذ ستتوقف براعة الاتحاد في التكيّف مع هذا الدور على الخيارات التي تتخذها تلك الدول، لكن تتعدد الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل بشأن قدرة الاتحاد الأوروبي على التأقلم مع التحديات المرتقبة، ويخطئ من يستخف بدوره في هذا المجال.

لورينز هيمينغا – دبلومات

back to top