شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (الأخيرة)

العالم الثقافي يودع الماغوط المناضل الذي مات ولم يقتل الفقر!

نشر في 30-04-2021
آخر تحديث 30-04-2021 | 00:00
يعتقد البعض أن شاعرا وأديبا مهما كالماغوط ربما يمتلك لنفسه أمنيات، قد تكون بحجم أي كاتب كبير وعالمي من امتلاك دار نشر أو استمرار ذكراه في نصوص تلفزيونية ومسرحية وسينمائية تحمل اسمه، أو نصب تذكاري أو غيره، إلا أن الماغوط كانت أمنيته الأخيرة «ألا يبقى سجين على وجه هذه الأرض، ولا أي جائع على وجهها أيضا». وهذه أمنيته الوحيدة. عجيب! حياة تجاوزت السبعين عاما نستطيع تلخيصها بخمس دقائق.

وبعد أن يتحدث خلال آخر حوار معه عن أمنيته يختار من قصيدة «حصار» ويقرأ:

دموعي زرقاء

اقرأ أيضا

من كثرة ما نظرت

إلى السماء وبكيت

دموعي صفراء

من طول ما حلمت

بالسنابل الذهبية... وبكيت

فليذهب القادة إلى الحروب

والعشاق إلى الغابات

والعلماء إلى المختبرات

أما أنا

فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق

لأعود كما كنت

حاجبا قديما على باب الحزن

مادامت

كل الكتب والدساتير والأديان

تؤكد أنني

لن أموت

العزلة والموت

بقي الماغوط في منزله يعيش عزلته ووحدته إلى أن توفي في ظهر الاثنين الثالث من أبريل عام 2006 عن عمر يناهز 72 عاماً، بعد تعرضه لجلطة دماغية. ونقلت وكالة الأنباء السورية الخبر بالقول: «فقدت الأوساط الثقافية والأدبية على الساحتين السورية والعربية علما من أعلام الشعر والأدب».

وفي يوم الأربعاء، تم نقل جثمان الشاعر الكبير إلى مسقط رأسه في مدينة سلمية، ليتم تشييع جثمانه إلى قبره، وحضر النقل عدد من الوجوه الرسمية والثقافية والإعلامية السورية.

رحل الماغوط وترك للعالم إرثا أدبيا كبيرا، ومهما تعددت ألقابه من شاعر الرثاء لشاعر الحزن لشاعر الثأر؛ يبقى نتاجه الأدبي الصادق تراثا غنيا لمن يحبون الأدب.

شقيقه عيسى تحدث عنه كإنسان وكشاعر، وقال في مقدمة كتابه، إن شقيقه محمد مات وهو يردد قولاً قديماً: لو كان الفقر رجلاً لقتلته. ولكن محمد قتل نفسه أخيرا في حين بقي الفقر. ويذكر عيسى الكثير في كتاب «محمد الماغوط- شاعر الخوف والجوع»، ومنها: «إذا كان البئر يحتاج الماء، وإذا كان السلاح يحتاج الذخيرة، وإذا كان القبر يحتاج إلى البكاء، وإذا كان العرس يحتاج إلى الأهازيج؛ فإن الكتابة بحاجة إلى موهبة وإلى صبر وإلى رغبة وإلى معاناة... منذ صغري كنت أقرأ لأخي محمد. أقرأ ما يكتبه وما ينشره، وكنت أتمنى لو أكتب مثله، لكني لم أكن أملك موهبته ولا صبره ولا معاناته. وعندما ذهب إلى دمشق في وقت مبكر جعلني أدرك أن من سيجيد الكتابة يجب أن يذهب إلى دمشق».

طباع

نقل بعض زوار الماغوط عنه عددا من صفاته وطباعه، وروايات ظريفة عنه، التمسوها خلال حديثه عن نفسه أو في حوار حول موضوع ما، كالأسفار والرحلات والآثار، إذ تبين أنه لا يحب الآثار ولا التاريخ، ويقول: عندما ذهبت إلى الأهرامات كدت أختنق من رائحة التاريخ. التاريخ لا يعنيني. وعن أحد مشاريعه الذي لم يتم مطلقا تحدث الماغوط عن الفنان فاتح المدرس، وقال عنه إنه أفضل فنان تشكيلي في سورية، وإنه كان يريد أن يجري حوارات معه ليكتبها ويخرجها في كتاب، ولكن الموت خطفه قبل البدء بهذا المشروع.

ومن جهة أخرى يقول: عندما سافرت إلى هولندا مدعوا، كانت الدعاية منتشرة في كل مكان، رأيت بطاقات الدخول وقد وضعوا لها سعرا غاليا، وعندما جاؤوا ليحاسبوني دفعوا لي ما لا يذكر، وأنا محمد الماغوط... في الوقت الذي نجد طائرات خاصة ترسل إلى أية راقصة لتحيي ليلة سمر، يدفعون لها آلاف الدولارات وتستقبلها أهم الشخصيات، فلماذا على الماغوط أن يقيم ندوات مجانية؟! قررت ألا أفعل. ومن الآن فصاعدا سأتقاضى عن كل ندوة أقيمها، أنا غالي الثمن. هكذا سأكون.

ووصف الحاصلين على الجوائز بالمقابل المادي بأنهم مرتزقة يبيعون أنفسهم من أجل المادة، لقد تحول معظم الأدباء اليوم إلى جماعة ماديين، فقد تساقطت العقائد والأيديولوجيات، وجائزة نوبل لا تعطى إلا للذين يوافقون على السياسة الأميركية ويعترفون بها وبإسرائيل، فليس ضمن طموحي أية جائزة من هذا النوع، أنا لا أرتشي ثقافيا ولا ماديا.

الجوائز

مسيرة العطاء الكبيرة كانت زاخرة بالتكريم من جهات عدة ودول عدة، ونذكر بعض الجوائز التي نالها الماغوط، ومنها ما تحدثنا عنه كجائزة «احتضار» عام 1958 وجائزة جريدة النهار اللبنانية لقصيدة النثر عن ديوانه الأول «حزن في ضوء القمر» عام 1961. كما نال مرة جائزة «سعيد عقل». ومن التكريمات المهمة في حياة الماغوط التكريم الذي ناله عندما أصدر الرئيس السوري بشار الأسد المرسوم رقم 126 القاضي بمنح الأدباء: سليمان العيسى، ومحمد الماغوط، ووليد إخلاصي- وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لجهودهم في مجال الفكر والثقافة. ‏

وتم تقليدهم الأوسمة الساعة الحادية عشرة من صباح الاثنين 2/5/2005 في قاعة المحاضرات بمكتبة الأسد،

كما نال جائزة «سلطان بن علي العويس الثقافية للشعر»، البالغة مئة وعشرين ألف دولار عام 2005. وبعد أن وصله نبأ فوزه بالجائزة قال الماغوط: صحتي «مخربطة»، لكن خبر فوزي بجائزة العويس أدخل السعادة إلى قلبي وقلب أسرتي. نعم، أنا الذي كنت أصدرت مجموعة «الفرح ليس مهنتي»، تمكنت هذه الجائزة الإماراتية من أن تجعل الفرح مهنتي، وتابع: لولا صحتي المتدهورة (كان على كرسي نقّال ولا يستطيع الوقوف أبداً) لزرت بيتي القديم الدافئ في الشارقة، والتقيت بالدكتور عبدالله عمران، وشربنا الشاي معاً. (وفقا لصحيفة الخليج).

قصيدة النثر

كافح الماغوط خلال حياته الأدبية كاملة ليثبت للجميع، وخاصة النقاد، أن قصيدة النثر هي القصيدة المعاصرة، ولم يترك مناسبة في حوار أو لقاء تلفزيوني إلا كانت القصيدة النثرية كابنته التي دفع عمره للاعتناء بها والدفاع عنها، إلا أن حوارا تلفزيونيا كان الأكثر تميزا بين حوارته واختصارا لما يجول في عقل وروح الماغوط الأديب والشاعر عام 1979، الحوار الذي أجراه مع الإعلامي والكاتب السعودي محمد رضا نصر الله، في برنامج «الكلمة تدق ساعة»، شارحا تعلقه بمنهج النثر كقصيدة للمستقل، والفرق بينها وبين القواعد المتبعة في كتابة الشعر القديم والكلاسيكي.

ويصف الماغوط بدايته مع الشعر بالحقيقية والغامضة والمعقدة وغير الطبيعية، كبداية أي فيلم مصري. لم يكن يعرف أن ما يكتبه شعر أو نثر أو أنه تابع لأصول ما. كان هناك شيء ما في داخله، ويجب أن يعبر عنه، فالزنجي الإفريقي يعبر عن مشاعره بالرقص والبدوي بالصحراء يعبر عن نفسه بالعتابا أو بلف السجائر والتنهيدات، أما الماغوط مع الشعر فهو كالإنسان البدائي الذي كان في الغابات، يهرب من الوحوش بالتشبث بجذع شجرة أو صعودها، والغريب على حد اعتقاده أن ذاك الإنسان الهارب أكثر طمأنينة وأمانا من الشاعر العربي الآن في هذه اللحظة.

ويعتقد الماغوط بعدم وجود شعر قديم وشعر حديث من وجهة نظره، وبالتالي فإن تعريف الشعر خاضع لأشياء ليس لها علاقة باسمه من الشعر. الشعر شعر إن كان قديما أو كان حديثا، إن كان على التفعيلة أو على الطرائق الكلاسيكية أو الحديثة، متسائلا: هل هناك شيء شعري صادق؟ وبرأيه يوجد بالرصيف شعر أكثر مما يوجد في الغابة، أي أنه قد يكون في صحراء رملية ويستطيع أن يرى غابة فيها، وقد يكون في حدائق زهور في هولندا ولا يرى فيها سوى الرمال، وهذا نابع من التجربة والرؤية وصدق المعاناة. أما الشعر الحديث، ومثال على ذلك المتنبي هو كلاسيكي أكثر من الكلاسيك، لكن من وجهة نظره هو شاعر حديث وشاعر صادق، وهناك مئات الأمثلة من الشعراء الحديثين والمفرطين في الحداثة إعلاميا، لكن شعرهم هو أكثر رجعية وأكثر تخلفا من العتابا والمواويل التي ترددها النساء، وهي تكنس أمام بيوتها، أو وهن يقمن بخض اللبن.

ويؤكد الماغوط أن جذوره في اللغة العربية، وهي الجذور والجذع والأغصان، أما الشاعر الفلاني والمدرسة الفلانية والمذهب الشعري فليس لها علاقة أبدا بالإبداع الشعري. لديه لغة متمكن منها، ولديه تجربة ولديه شيء يريد إيصاله للآخرين. فاللغة قطاره الذي سيوصل أفكاره للآخرين، واللغة العربية أصبحت كالقطارات العمومية أو قطارات الأجرة، فمن يملك ثمن تذكرة بإمكانه الركوب، ولم تعد الآن تعرف الراكب الشرعي من الراكب المزور اللاشرعي، وبالتالي لا يوجد شيء متعلق بالجذور والتراث، يكفي فقط أن أعرف لغتي وأتمكن منها، وليس من الضروري أن أكون قد قرأت للمتنبي والبحتري والشريف الرضي حتى أكون شاعرا.

ويرى الماغوط أنه لا أهمية في العودة إلى الماضي، طالما أنه يقدر في اللحظة الراهنة وأمامه واقع وأمامه مستقبل، فلماذا العودة إلى الماضي وتَمثُّل تجارب الآخرين وإيحاءاتهم اللغوية أو الشعرية أو تراثهم، وبينه وبينهم مئات من السنين؟ فالتجربة القديمة تختلف كليا عن التجربة المعاصرة، وما يشعر به الآن وما يعانيه وما يحيط به من أحداث لم يلبها الشاعر القديم قطعا، فالمتنبي لو كان موجودا الآن في هذه اللحظة ويعاني من المشكلة الفلسطينية ومن قضية التخلف ومن قضية اليمين واليسار ومن قضية الفوضى التي نعيشها الآن لما كتب «أصخرة أنا مالي لا تحركني»، فالماغوط يعيش هذه الأحداث، التجربة أو البيئة أو الوسط الذي يعيش فيه الشاعر تفرض عليه أسلوب التعبير. وعندما يكون في موقف حرج وفي ورطة ما، ويريد التخلص منها تتبدل كل طباعه من الهدوء والصبر ويستحضر طبائع جديدة تناسب هذه اللحظة، وعصر يختلف كليا عن العصر الماضي في عصر تجارب الناس فيه محدودة. كان هناك زمن كي تبكي وتتذكر، وزمن كي توصل أفكارك للآخرين، ولا يوجد مشكلة أبدا. في الوقت الحاضر لا يوجد وقت، ولا يوجد أي فرصة للتلكؤ أو لشرود الشاعر القديم على ظهر بعير أو على باب خليفة أو الاعتكاف في صحراء... لا يوجد إطلاقا. نحن الآن في دوامة كالمكان الذي وضع فيه الأسرى من قبل الرومان، في الحلبة، ثم يتركون معهم في الحلبة وحوشا، حيث على الأسير أن يتجاوز هذا الوحش. ووضعه لا يشبه وضع المتفرجين عليه أو ذاك الموجود في الصحراء يبقى يغني للصحراء حتى تصبح عظامه جزءا منها. وأهم من اللغة طرق استخدامها، والأهم من هذا كله هو الإنسان والشاعر الذي استعمل هذه اللغة، ومن الممكن لشاعر عظيم بخمس مفردات أن يصنع ما يعجز عن صناعته شاعر محدود الإمكانيات والموهبة بشاحنة مليئة بالحروف والنظريات، والمهم هو الشاعر الذي يستعمل هذه اللغة.

يتحدث الماغوط خلال حواره عن دور النشر ووسائل الإعلام، التي تلعب في رأيه دورا كبيرا في الترويج للغث والرخيص، وفي التعتيم على الأصيل والمبدع، وهي أكبر من طاقته وأكبر من قدرته على فرز الناس: فلان لا يقرأ وفلان لا يكتب، أو: أنت اكتب نثرا وأنت اكتب قصيدة تفعيلة، وهي شيء أبعد من طاقة الأفراد القراء أو الكتاب، لكن من الممكن بكل حركة جديدة، إن كان شعرية أو سياسية أو اقتصادية حتى، أصيلة أو إبداعية، أن يتكون على ضفافها نوع من أنواع الطفيلية. تجد النهر صافياً ومن أحلى ما يكون، لكن يوجد على ضفافه ما هب ودب من الأشواك، وبالنسبة لقصيدة النثر ليست تنكرا لقضية التراث، بل هي طفولة التراث. التراث العربي جاء في لحظة من اللحظات، فجأة دبت الشيخوخة فيه؛ فقصيدة النثر هي طفولة وهي ربيع وخريف للتراث، بدليل أن قصيدة النثر الأصيلة تصل إلى الناس وبسهولة ودخلت حتى بقلوب الكتاب التقليديين والشعراء التقليديين جدا، بل لقد وجدوا فيها شباب الماضي أو طفولة الماضي. وهو يؤكد أن المنصفين ليس لديهم سوى قضية الشعر ومستقبل الشعر، مستقبل الوطن ومستقبل القارئ، أما إذا كان أحدهم موتورا أو فاشلا شعريا، قال: هذه القصيدة النثرية ضد التراث. لكن ما هي البراهين على ذلك؟!

رحل الشاعر البدوي البائس، الذي سكن كل إنسان عربي متألم وحزين. ربما أضحكه في مواقف، وربما أبكاه في أخرى، لكنه كان دائما محور شعره ومسرحياته وقلمه، الذي لم ينحرف عن أوجاعه، ليترك الماغوط إرثا كبيرا لأجيال متلاحقة، ورمزا عربيا كبيرا في الأدب والشعر.

«جناح الكآبة»... شائعة الرحباني

تناقل البعض ما يوحي بأن هناك تعاوناً بين الماغوط والفنان زياد الرحباني في قصيدة جناح الكآبة، التي كان من المفترض أن تغنيها السيدة فيروز ولم يتم هذا العمل، وكان مجرد خبر يتناقله بعض المقربين منه.

وتقول القصيدة:

مخذول أنا لا أهل ولا حبيبة

أتسكع كالضباب المتلاشي

كمدينة تحترق في الليل

والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين

كالرياح الجميلة، والغبار الأعمى

فالطريق طويلة

والغابة تبتعد كالرمح

مدي ذراعيك يا أمي

أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي

دعيني ألمس حزامك المصدف

وأنشج بين الثديين العجوزين

لألمس طفولتي وكآبتي

الدمع يتساقط

وفؤادي يختنق كأجراس من الدم

فالطفولة تتبعني كالشبح

كالساقطة المحلولة الغدائر.

شادي عباس

أمنيته الأخيرة والوحيدة هي ألا يبقى سجين أو جائع على وجه الأرض

الأوساط الثقافية والأدبية السورية والعربية نعت الماغوط في 3 أبريل 2006 عن عمر ناهز الـ 72 عاماً

التاريخ لم يكن يعنيه وكان يختنق برائحته وتمنى لو التقى بالفنان التشكيلي فاتح المدرس ليحول الحوار معه إلى كتاب

اعتبر الحاصلين على الجوائز بمقابل مادي مرتزقة وجائزة نوبل لا تعطى إلا لمن يوافق على السياسة الأميركية

الرئيس بشار الأسد منحه وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى سنة 2005 ونال في نفس العام جائزة «سلطان بن علي العويس للشعر»

أنا مع الشعر كالإنسان البدائي في الغابات والشعر شعر قديماً أو حديثاً... على التفعيلة أو كلاسيكياً
back to top