شاعر التمرد والحزن الذي سكن الإنسان العربي (14-16)

الماغوط يكرِّم أصدقاء السجن وأبناء سلمية ويختم حياته بدوياً أحمر

نشر في 28-04-2021
آخر تحديث 28-04-2021 | 00:00
كرم الماغوط زملاءه الشعراء ومرشديه وعرّابيه ومساعديه، كما كان يصفهم، وعبر عن ذلك شعراً ومقالاً، كممدوح عدوان، كما كرم أصدقاء السجن إلياس مسّوح وكمال خير بيك، وأبناء مدينته سلمية: سليمان عواد وإسماعيل سليمان وصديقه عصام محفوظ، وأصدر الماغوط في عام 2006 بختام حياته الأدبية كتاب «البدوي الأحمر»، الذي صدر قبل وفاته بأيام قليلة، ويحتوي على مجموعة من القصائد التي تعبر عنه، بعد عزلة طويلة في منزله.
لفت الماغوط أنظار المتابعين له بشغف فيما قدمه في كتابه «سياف الزهور» عام 2001، بعد إصداره مباشرة، حيث اتجهت الأنظار إلى عنوانه ثم مضمونه، وتضمن هذا الكتاب: نصوص (2001-1998)، وفيها: لا تأخذ حلوى من غريب، اغتصاب كان وأخواتها، غرق ماجلان... وغيرها. وفيها أيضا: الغزو، شوارد الدم، قدود صينية. كما جاء في الكتاب: كاسك يا وطن، نصوص (1993-1992)، ومنها: برج إيفل، الذريعة، تاجر البندقية، عصا بلا جزرة... وغيرها.

يقول في قصيدة شوارد الدم:

أيتها النظرات الكسيحة كالبنفسج

اقرأ أيضا

يا بركة السنونو الزرقاء

يضرب صدغي كحطاب جبلي

خمسون عاما وأنا أسير وأسير

ولم أصل إلى شيء!

إلياس مسّوح

كان لصديق السجن إلياس مسوح قصة رواها الماغوط في كتابه «شرق عدن غرب الله»، يروي فيها كيف أصيب رفيقه وصديقه إلياس بالجلطة الأولى بعد احتلال الكويت عام 1991. وعند تحريرها على يد القوات الأميركية أصيب بجلطة ثانية، وفي «أم المعارك» أصيب «بأم دم». ويتابع: ورغم أنني انتهيت بعكاز واحد، وهو باثنين وبأنابيب الأكسجين في فمه وأنفه وبنطلون من الأوردة والشرايين الصناعية، ظل مرشدي الطبي والعاطفي واللغوي والاستراتيجي ثم انصرف إلى قريته مرمريتا للإشراف على المرضى والمعوزين من أبناء جلدته. ويرثي صديقه المقرب في شعره قائلا:

بأجمل الأقلام والألوان

سأرسم الهلال الخصيب على قبرك

وأجمل الزهور والفراشات

والطيور التي كنت بارعا في اصطيادها

ولكن المشكلة كما يقول أحد اليتامى:

«ما من قبر جميل في العالم»

ومع ذلك سأرسم عليه نجمة داوود

لتكون كلمتك مسموعة في الدنيا والآخرة

وعن صديق السجن في المرة الثانية الشاعر كمال خير بيك يقول:

كنت أغني... وأنت تطلق الرصاص

كنت أكتب... وأنت تطلق الرصاص

كنت أقرأ... وأنت تطلق الرصاص

كنت أعزف... وأنت تطلق الرصاص

كنت أرسم... وأنت تطلق الرصاص

كنت أنحت... وأنت تطلق الرصاص في كل اتجاه انتصارا للحق والخير والجمال والقضية

وهاهم رفاق الدرب الطويل

يزورون قبرك بانتظام

ليقرؤوا عليه أسعار العملات الأجنبية لذلك اليوم!

أبناء سلمية الشعراء

لم يتخل الماغوط عن مسقط رأسه وعن أهله فيها، وخصوصا زملائه من الشعراء الذين كان لبعضهم الفضل الكبير في دعمه من ناحية التمسك برأيه حول قصيدة النثر، وحقيقة أنها القصيدة المعاصرة، رغم اعتراض المعترضين، فعلاقته بهم كانت مثالية، إذ بقي الماغوط وفيا لهم في ذكراهم، ويتحدث في كتاب «شرق عدن غرب الله» بأهمية عن الشاعر سليمان عواد، الذي يعود الفضل الكبير له في حياة الماغوط الشعرية وانطلاق الشعر على هيئته النثرية، ويصفه بالرجل الذي واجه الحياة بشعر طويل حول أذنيه وعقب لفافة بين شفتيه وقبعة تطير وتتدحرج فوق عربات الحصاد وتحت الأحذية والحوافر وقد حفر الفقر في وجهه خطوطا كثيرة... كما كان يكره الأسماء الشائعة للطعام والشراب والأشخاص والشوارع والمواقع: عقارب، عقيربات، خنيفس، أبوقبيس إلى سومطرة، نياغارا، تاهيتي.

ويروي الماغوط إحدى نهفات صديقه، عندما اتصل به أحد مقلدي الأصوات النسائية مدعيا أنه فتاة مغرمة به وبشعره وتريد لقاء فوريا في محل بكداش، فطار صوابه من الفرح والثقة بالنفس، ثم تجهم ولم يعرف ماذا يفعل وإلى أين يتجه، فهناك محلان للبوظة بهذا الاسم: واحد في الحميدية وآخر في الصالحية، وعاش ومات ولم يعرف في أي منهما كانت تنتظره! ومنذ ذلك الحين أخذ يتوجس من زملائه الكتاب الماركسيين والحركات اليسارية كلها، ولم يكن هناك من يبثه همومه ويبوح له بأسراره سوى أمير البزق محمد عبدالكريم، وكان هذا، رحمه الله، بالكاد يرى تحت أشعة إكس، فكيف سيعثر عليه في يوم الحشر؟ وأما الشاعر إسماعيل سليمان، فقد ترك له الماغوط في كتابه «شرق عدن غرب الله» عدة أبيات يقول له فيها:

أليف كريشة جناح

غريب كجناح بين حوافر

بل هو مثل خريطة معركة حاسمة، يمكن النظر إليها من أكثر من زاوية

لقد أعطاه الله: الجمال والمروءة، والعافية، والمال والعلم والثقافة والجاه والحسب والنسب، ولم يحرمه من شيء سوى: رؤية السماء

مع أن عينيه بلون السماء... وعند الغروب أيضاً!!

عصام محفوظ

خصص الماغوط لصديقه الشاعر والكاتب المسرحي اللبناني عصام محفوظ حيزا من كتابه، يروي قصة مأساوية تعرض لها عصام عندما دعي إلى زيارة اطلاعية إلى العراق الشقيق، وليلة وصوله على الطائر الميمون، اقتحم غرفة نومه في الفندق عدد من حراب الرئاسة في تلك الأيام واقتادوه إلى أعماق الصحراء لبضع ساعات، أعيد بعدها عبر أجواء الأردن الشقيق، ومن ثم إلى الأراضي السورية الشقيقة، ليصبح بعدها شاعر المهدئات والمسكنات والمرتفعات والمنخفضات والمنعطفات وحوادث الطرق في لبنان والمنطقة كلها.

وفي باريس، حيث كان الماغوط يلبي دعوة أدبية التقى به في أحد مطاعم الحي اللاتيني، حيث وضع أمامه بلاطة خشبية تكدست فوقها أكوام من أفخاذ وأعناق الطيور والحيوانات الأليفة والمتوحشة، وساطور أو بلطة، فتأمل عصام المنظر برعب ودهشة وتمتم بلهجته الجنوبية الرائعة: هكذا تفعل أميركا بالعالم. وخرجا من هذا الخم الكوني إلى الفضاء، في حين تابع عصام تمتمته وهما يتمشيان على ضفاف السين:

أميركا وراء جنون نيتشه وفان كوخ

وانتحار لوتريامون وهمنغواي وخليل حاوي

وصمَم بيتهوفن

وصرع ديستويفسكي

وكآبة شارلي شابلن

وتشرد رامبو وإبراهيم سلامة

وخطف كارلوس واختفاء موسى الصدر

وإعدام لوركا وأنطوان سعادة

وجفاف الأنهار

وهجرة الطيور

* والحل؟

- سأشد رحالي إلى الهند، إلى اليابان، إلى الصين الرفيقة... وأنت؟

*سأعود إلى قريتي وقصائدي القديمة.

- وأنا كذلك.

كتب الماغوط واصفا حياته كلها شعرا، لكن الذين تحدثوا عنه وأعجبوا به تجاوزت كلماتهم مؤلفات بأكملها، ونذكر منهم الكاتب سليمان بختي، الذي وصف الماغوط وصفا رائعا بأنه شاعر الغضب والجرأة والتمرّد، وتجربته هي تجربة جيل بأسره. قضى محمد الماغوط (2006-1934) عمره وهو يوسع نطاق الحرية. كاتب ناقم متمرّد ساخر جريء. جملة معترضة في الثقافة العربية. جاء إلى الشعر من عالم الصفاء والتأمل والقساوة والسخرية، سخرية ممزوجة بالألم وطالعة من الواقع. هو أحد روّاد قصيدة النثر وأكثرهم جاذبية، وأعطى لقصيدته بعداً متفرداً في تفاعلها مع الشعر والنثر في أرقى صياغاته، وعالج في شعره المواقف الوطنية والقومية والإنسانية برؤية شعرية شمولية.

أما الكاتب المعروف خليل صويلح فيصفه بأنه إمبراطور العزلة وأمير التسكع.

«البدوي الأحمر»

نختم أعمال الماغوط بكتابه «البدوي الأحمر» الذي صدر قبل وفاته بأيام قليلة، فاختار هذا المولود الجديد، بعد أن داهم والده (الماغوط) الموت، وحيدا على أريكته، بين تبغه وعزلته الخانقة، العابقة بالدخان، وصوت فيروز، وأحلام كثيرة مؤجلة أثقلت روحه مثلما أثقلت قصيدته منذ أول حرف خطه، وحتى آخر جملة فيه، وكتب نصوص هذا الكتاب بمزيد وبقوالب من السخرية والتهكم غلّف بها عناصر الاحتجاج والألم والرفض والشكوى تلك النصوص المتأرجحة بين الشعر والنثر، بين التقريرية المباشرة والبلاغة المتألقة، بين النبرة الغنائية والمقال الصحافي. الماغوط في نصوصه الجديدة يبقى في مكانه، مدافعا عن مواقعه القديمة، مبتعدا قدر الإمكان عن الصنعة الشعرية، عن القصيدة الذهنية، مقتربا من بساطة الحياة التي لطالما اقترب منها، مسخرا خبرته الطويلة في ظروف الشقاء والمعاناة والتسكع، متنبئا، ربما، بأن الرحيل بات قريبا، فبعد أن يعبر عن سأمه من الغربة والوحدة، و«الصمود»، ونظرات الحسد والإعجاب، و«السلام المطمئن الآسن»، يريد أن يعود إلى سنوات بيروت ومجلة الشعر والشباب المتوقد، وإذ تبدو الأمنية مستحيلة فإنه يعلن: «أيتها الأرصفة/ سأريحك من خطواتي/ أيتها الجدران/ سأريحك من ظلي/ أيتها السنابل/ سأريحك من أسناني/ أيها الأطباء/ سأريحكم من سعالي/ أيها النائمون/ سأريحكم من غنائي...»، راسما لنفسه شكل الموت المشتهى: «يجب أن أموت/ ليس بالسم أو من الحب أو المرض أو الخوف أو العار أو الرعب/ بل من أجل مطر غزير يشبهني»، وهذه دلالة رمزية تشير إلى عطش الشاعر إلى ما يطهره من أدران الحياة وكوارثها بمطر يزيل الغبار المتراكم على نوافذ الروح وزوايا الحياة. إن هذا الشعور بموت وشيك يكاد يطغى على مجمل النصوص، والماغوط حتى وهو يعاني المرض وتعب السنوات لا يريد شيئا سوى الكتابة، فهو وباعترافه «لا يتقن شيئا سوى الكتابة أو التفكير بالكتابة».

نصوص «البدوي الأحمر»، الذي يشير إلى هوية الشاعر، مع صفة تحيل إلى الهندي الأحمر، مع ما تحمله هذه التسمية من ألم واغتراب وانزياح في الزمان والمكان، هي نصوص تستحضر ذلك القاموس الواسع الذي وسم قصيدة الماغوط من مفردات التسكع، والحنين، والسجن، والحرمان، والحسرة، والانكسار، والحزن، والوطن الغائب، مع استحضار لأطياف كتاب رحلوا مثل رامبو وكافكا وبودلير وهمنغواي وسان جون بيرس وسنية صالح (زوجة الماغوط) وسعدالله ونوس، ونزار قباني ونجيب محفوظ وغيرهم، فلكل واحد من هؤلاء حكاية ألم صغيرة مع تجربة الماغوط، الذي كره التنظير والنقد والشعر القائم على الفكرة، هو اكتفى بالصورة لكن لهذه الأسماء ذكرى تطل بكل سطوتها وفتنتها عبر سطور الشاعر الآن.

في هذه القصائد نسمع ترجيع صدى لصوت بعيد قادم من أرض الخوف والمطاردة والسجون، ونسمع كذلك صوتا منكسرا يرثي سنوات العمر المثقلة بالأوجاع، ونجد لدى الشاعر توقا إلى قصيدة قادرة على إثارة الدهشة. لعل الماغوط وفق إلى حد بعيد في ذلك، غير انه لم يهنأ بساعة راحة في عالم كان يصيبه دوما بالقلق والخوف، فيلوذ إلى بيته الدمشقي، متمنيا: «أن يشيعني نفر قليل/ من الجيران وزملاء العمل والمواصلات/ بدموع متواضعة/ يتفرقون بعدها كل في حال سبيله»، ولعل هذه الأمنية هي الوحيدة التي تحققت للماغوط، بعدما اكتفى في حياته بالشعر، إذ كان يقول: «تكفيني حديقتي الشعرية الوارفة المتواضعة في أعماقي».

ويقول في «البدوي الأحمر»:

قضى لينين بمشيئة الله وإرادته بمغص عادي

وكلارك غيبل من ترويض جواد في فيلم سوء الطالع

وعلي خان وجيمس دين ونبيه أبوالحسن ومحمد دلول بحوادث سيارات عادية في أميركا وفرنسا والعراق ولبنان

ولورنس العرب بحادث غرق في النيل

وسعيد تقي الدين بحادث مماثل في الأرجنتين

وسنية صالح من شوارد عادية في الدم والعائلة

وسعد الله ونوس من ورم بسيط في الحبال الصوتية

ومصطفى أرناؤوط من تشوه عادي في ذراعه

وعبدالقادر أرناؤوط من التأتأة

وأنا... تعرضت وعايشت وعاصرت

ما لا يحصى من الكوارث والحرائق والصواعق

وضربات الشمس والكسوف والخسوف

والتبدلات القطبية والمدارية

والإشعاعات الذرية

والهزات الأرضية في تركيا والجزائر وإيران واليابان

ومثلها أكثر وأخطر من الثورات والانقلابات والانفجارات والحوادث

والدوريات الثابتة والراجلة والمؤللة

والتصفيات العرقية والجسدية والقتل على الهوية

ودهم منازل ونزول ملاجئ

وعزل مناطق وإغلاق شوارع وتعتيم نوافذ

ومع تجوال ومرور

ولم أتوقف أمام إشارة، ولم أستجب لنداء، ولم أتفادَ حجراً أو رصاصة

ونجوت!

(الكتاب صدر عن دار المدى بدمشق).

العلاقة القوية بين الماغوط وعدوان

أغنى الماغوط كتاباته، التي وصف فيها أصدقاءه الشعراء بالشعر والنثر والمقال، وكانت حصة ابن بيئته الشاعر ممدوح عدوان، والتي وصفها في قصيدة بعنوان الصفقة، كبيرة ومميزة، إذ يقول فيها:

ممدوح أنت تحب مصياف

وأنا أحب سلمية

وكلانا ديك الجن في مجونه

وعطيل في غيرته

فلنصطحبهما إلى أقرب حانة أو مقصف

ونبثهما أشواقنا وأحلامنا وهمومنا

ولأن مدينتي بدوية لا ترتدي شيئا تحت كرومها

فإياك أن تطرف عينك عليها

وإلا صرعتك في الحال!

لا تصدق

إنني أهول عليك لا أكثر كما كان سليمان عواد يهول على أمير البزق

مههدا إياه بلفافته الخصوصي للجيش

والآن دعنا من كل هذه الترهات

أريد خزعة من رئتيك وجبينك وحذائك

إن نسيجها أكثر ديمومة ومماطلة من قلعة مصياف وجبال دير ماما

وأنا واثق بأنها ستزهر من جديد كالوراقة وفي عز الشتاء

شادي عباس

«سياف الزهور» كان لافتاً بعنوانه ومضمونه وتضمن نصوص مسرحية «كاسك يا وطن»

إلياس مسوح بقي مرشد الماغوط رغم مرضه وإصابته واعتماده على عكازين وشبكة من الأوردة الاصطناعية

وصف الماغوط حياته كلها شعراً لكن الذين تحدثوا عنه وأعجبوا به تجاوزت كلماتهم مؤلفات كاملة

عراب الماغوط للقصيدة النثرية سليمان عواد كان يشارك همومه دائماً مع أمير البزق

عصام محفوظ تحول إلى شاعر مسكنات ومهدئات بعد أن اختطفه حرس الرئاسة العراقية لساعات في الصحراء
back to top