ملك القدود وسيد الموشحات وحارس التراث (5-13)

صباح يصدح عبر أثير إذاعتَي دمشق وحلب وسهرات التلفزيون

نشر في 18-04-2021
آخر تحديث 18-04-2021 | 00:00
ما بين ألقابه المتعددة، وأعماله الخالدة، وألحانه الطريفة والتالدة، يقف صوته معلناً عن نفسه بالتفرد، محتلاً ساحة الطرب، حتى صار زرياب العصر ومبعث الفخر، فقد ولد عملاقاً في زمن العمالقة، في وقت كان من الصعب على أي إنسان أن يحجز لنفسه مكاناً بين النجوم، لكنه عزف منفرداً فأبدع، وغنى فأطرب، وعاش مكرساً حياته لأجل التراث والفن الأصيل، وحاملاً الراية عالياً بكل ثقة، منذ أول صرخة في حياته وحتى الآن.
إنه صاحب الصوت الفاخر، ملك القدود الحلبية، ابن حلب الشهباء التي ترى وتسمع في آن، إنه «قلعة حلب الثانية» وأجمل قطوف الطرب الدانية... إنه صباح فخري، صاحب السيرة الطربية، نجم الموال وملك القدود، الذي يسعد «الجريدة» أن تفرد له هذه المساحة، لتنثر على قرائها عبيراً من سيرته.
يعود صباح إلى الغناء من أبوابه الواسعة في حلب ودمشق، عبر وسائل الإعلام المتاحة وقتها في المدينتين، ويشارك في عدة سهرات تلفزيونية، مع أشهر المطربين السوريين والعرب.

عاد اسم صباح فخري إلى أوساط حلب الفنية، التي احتضنته وعاد إلى مسارحها بعزيمة وإصرار كبيرين، بعد أن اكتمل صوته الرجولي، وأصبحت حنجرته وحباله الصوتية مكتملة النضج، لتطرب آذان السامعين جميعا بصوت تفرد عن أبناء جيله، وعادت الأماكن تصدح بصوته العذب من مسرح إلى مسرح ومن نادٍ إلى آخر.

وصل مرة ثانية إلى إذاعة حلب، وهناك انصب اهتمام الملحنين عليه مجددا، وأصبحوا يلحنون أغاني خاصة بصباح فخري، ومنها قصيدة لحنها الأستاذ نديم درويش «أدعوك يا ربّ من روحي ووجداني، أدعوك من قلب آلامي وأشجاني، أدعوك يا ذا المن والشان، مستعجلا كشفَ ضرٍّ مس إخواني».

اقرأ أيضا

«أنا في سُكرَين»

يذكر أن أول أدوار صباح القديمة كانت من ألحان سري الطنبورجي، وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية، وتقول الأغنية «أنا في سُكرين من خمر وعين، واحتراق بلهيب الوجنتين، لا تزدني فتنة بالحاجبين، أنا في سكرين»، وغدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري، بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.

وبما أن هذه الأغنية اعتبرت من أكثر الأغاني شهرة للفنان صباح فخري، فقد قدم العديد من الموسيقيين بحثا في كلماتها وألحانها، حيث اعتبرت القصيدة من الشعر الصوفي الرمزي، الذي تكون ألفاظه الغزلية ظاهرياً رموزاً عن معانٍ مختلفة روحية تتعلق بالحب الإلهي، وهو أسلوب متبع عند بعض شعراء التصوف، عندما يتسع المعنى وتضيق العبارة. وقد اعتبر البعض عند البحث والتدقيق أن لحن المذهب لنعسان الحريري، وليس كما هو متداول ومشهور للملحن سري طمبورجي، فسري لحنها بشكل مختلف تماماً كلياً، وإن أبقى على مقام النهاوند، ولذلك فللقصيدة نسختان قديمتان، ونسخة ثالثة مستحدثة، وهي المنتشرة الخاصة بالأستاذ صباح، حيث إن ما نسمعه في الكوبليهات مختلف تماماً عما لحنه نعسان او سري، وهو من لحن الاستاذ صباح، ولكنه أبقى على المذهب الأصلي لنعسان الحريري، وإن قدمه مختلفاً عن طريقة تقديم نعسان للمذهب، فجعل الدخول بالمذهب مثل دخول مذهب قصيدة خمرة الحب، التي هي من ألحان الاستاذ صباح المشهورة، وقد عرض الباحث الموسيقي الدكتور سعدالله آغا القلعة سابقاً النسخ الثلاث وقارن بينها وحللها علمياً، ومن يسمع يجد الاختلافات واضحة، سواء الكوبليهات أو طريقة تقديم المذهب عند نعسان الحريري وعند الاستاذ صباح، وأما سري طمبورجي فلم يكتف بتعديل الكوبليهات، وإنما المذهب أيضا.

في ألحان الفنان صباح، المقام: نهاوند، والإيقاع: فوكس، والقصيدة من كلمات الشاعر بدرالدين حامد، والمذهب: نهاوند للملحن نعسان الحريري. في الكوبليه 1 بيات للأستاذ صباح فخري، وفي الكوبليه 2 حجاز أيضا للأستاذ صباح فخري:

أنا في سكرين من خمرٍ وعين ... واحتراقٍ في لهيب الشفتين

لا تزدني بل فزدني... فتنةً في الحاجبين

الكوبليه 1: يا حبيبي أقبل الليل فهيا للمدام... وارسل العود يُغنينا تراتيل الغرام

نفحتني منك بالأشواق أنفاس الهيام... يا حبيبي إنْ تَكُن لي فعلى الدنيا السلام

(وأحيانا يرددها: أنتَ كُلي)

الكوبليه 2: أترع الكاس وطيّبها بعطرٍ من لماك... واسقنيها إن عيني لا ترى شيئا سواك

فليقولوا ما أرادوا أنا صبٌ في هواك... خمرتي كاس الحُميا ونعيمي في رضاك

(مرةً يقول الحميا بمعنى الرضاب، ومرةً المحيا بمعنى الوجه، وكذلك يقول مرةً رضاك، ومرةً هواك، ومرة لقاك)

إذاعة حلب

وعاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب، وسهرات إذاعة دمشق، وما كان يعرف بـ «خيمة حماد»، الذي عرض على التلفزيون بالأبيض والأسود، والذي يذكر أن الفنان السوري محمد بشار القاضي كتب منه ست سهرات، أما الإعداد والتنفيذ فكان للفنان: دريد لحام، وقد غنى صباح فخري مع المطربة اللبنانية الشحرورة صباح، وهناك قدّم الموال بالقدود الحلبية، وغنى «مالك يا حلوة مالك»، و»يا مال الشام ويالله يا مالي، طال المطال يا حلوة تعالي».

تميز صباح بظهوره في هذا البرنامج، وقد عبر أيضا عن إعجابه بالشحرورة، وبصوتها الجبلي القادر، ومظهرها المتألق، وبأنوثتها الطاغية، وقد قُدم وقتها في البرنامج بشكل طريف.

كما غنى الفنان صباح في سهرات «خيمة حماد»: «أيها الساقي إليك المشتكى، قد دعوناك وإن لم تسمعِ، يا لالا يا ليل يا لاللي، ونديم همت في غرته، وبشرب الراح من راحته».

وفي أيام الوحدة بين سورية ومصر، كان الإعلام العربي في موقع ريادي، وكانت مصر واجهة الإعلام العربي من كل النواحي في مجال الإذاعة والسينما وغيرهما، وفي جمهورية الوحدة السورية-المصرية أعلن وقتها عن افتتاح بث تلفزيوني بين مصر وسورية، في آن واحد يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1960، وكانت البرامج تبث مباشرة بدون تسجيل، ولم يكن الأمر سهلا، وقد شارك صباح وقتها في تلك البرامج، ولم يكن لديه مشكلة في البث المباشر، ومن أشهر البرامج التي شارك بها في تلفزيون دمشق: «الله يمسيكن بالخير»، و«سهرة دمشق».

وفي تلك الفترة كانت إذاعة حلب ملتقى الفنانين والهواة، فاستقطبت أصحاب المواهب، وقد تميزت ببرنامج «سهرة الميكروفون»، الذي أخرجه الأستاذ شاكر بريخان، حيث اكتشفت وقتها الأصوات الجميلة مثل سمير حلمي ومها الجابري.

ومن الأغاني الخاصة للأستاذ صباح فخري، التي سجلت في إذاعة حلب أواخر الخمسينيات:

هل تذكرين الشط في بحر الخيال

هل تذكرين السحر يا أخت الجمال

وهي من كلمات: عبدالحميد خوارنة، وألحان: عدنان أبوالشامات

ومن ذكريات الإذاعة الدمشقية، حول لقب صباح الذي رافقه في كل مسيرته الفنية، أنه في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء، والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني؛ شقيق الشاعر نزار قباني، أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه، فقدم المذيع المطرب باسم «صباح فخري».

ومن ذكريات الفنان صباح، في تلك الفترة، الحفلات التي كان يقيمها في السبيل؛ أحد أحياء مدينة حلب، في سهرة كل يوم خميس، وفي إحدى تلك السهرات، التي كانت بالعادة لا تنتهي إلا فجرا أو عند طلوع الشمس صباحا، استمر صباح بالغناء ليلتها يطرب جمهوره كالعادة في انسجام تام، إلى أن حصلت حادثة جميلة تمثلت باقتراب الحمام والعصافير من المسرح، الذي كان يغني عليه، وبدأت بالتحرك حول صباح وحول الفرقة الموسيقية، وعلا صوتها في بعض الأحيان على صوت الموسيقى، واستمرت الحفلة وقتها حتى الساعة السابعة صباحاً. وسميت هذه الحفلة بسهرة الحمام، لأن العصافير والحمام رافقته ما يقارب الساعة أو الساعة ونصف الساعة من الفجر حتى طلوع الشمس.

جامع عبدالناصر

كانت فكرة بناء جامع تتكرر في ذهن صباح فخري مدة طويلة، وفي الستينيات عرض صباح الاقتراح على مفتي حلب السيد سليمان النسر، الذي وافق، وكانت التسمية التي طرحها صباح هي «جامع جمال عبدالناصر»، حيث كانت شعبية الرئيس عبدالناصر في أوجها عربياً، وفي سورية خصوصا، وعلى وجه التحديد في حلب، ومن ثم دخلت تلك الفترة حيز التنفيذ، بعد ان تبرع لبنائه الكثيرون من أهالي حلب وتجارها، وتلقى المشروع دعما من الحكومة السورية ومحافظة حلب، واهتم صباح بنفسه كي يوفي الجامع كل مواصفات الصحة والراحة للمصلين، وقد بقي مؤذنا فيه مدة من الزمن، ومن ثم انتقل صباح إلى جامع آخر موجود في منطقة «الجديدة»، وهي منطقة في مدينة حلب من المعروف عنها أن أغلبية سكانها من المسيحيين، وعرف وقتها، كما تناقل الكثيرون عن إعجاب مواطني المنطقة بصوت المؤذن صباح، ومما يذكر أنه في الزيارة الثانية للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر إلى مدينة حلب صلى في الجامع الأموي الكبير، وكان بصحبته الأمير البدر، وقد أذن للصلاة وقتها الفنان صباح فخري كتكريم للزائر المحبوب من أهالي المدينة.

موسوعة غينيس

عام 1968 في كاراكاس بفنزويلا، غنى صباح فخري من الساعة العاشرة مساء حتى الساعة العاشرة صباحا، متجاوزاً الساعات العشر، التي تم الحديث عنها، في حفلة أدخلته موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وكانت هي الحفلة الأولى لصباح فخري خارج سورية، واختار صباح للحاضرين جزءا من قصيدة لإيليا أبوماضي وقام بتلحينه في الطائرة:

ومليحة في وجهها ألق الضحى

والسحر والصهباء في أقوالها

قالت: أينسى النازحون بلادهم

ما هاج حزن القلب غير سؤالها

الأرض سورية أحب ربوعها

عندي ولبنان أعز جبالها

والناس أكرمهم علي عشيرها

روحي الفداء لرهطها ولآلها

مرح الصبا الجذلان في أسحارها

ومنى الصبا الولهان في أغصانها

وشدوت مع أطيارها وسهرت معْ

أقمارها ورقصت مع شلالها

تشتاق عيني قبل يغمضها الردى

لو أنها اكتحلت ولو برمالها

الموشح عند صباح

عندما يسأل الفنان صباح فخري عن أهم الموشحات، التي قدمها وعددها كبير جدا، منها ما هو من ألحانه ومنها من ألحان غيره، يذكر على سبيل المثال لا الحصر: «ما لعيني أبصرت» (من ألحان أبي خليل القباني)، «من لصب» (ألحان كامل الخلعي)، «داعي الهوى» (ألحان الشيخ عمر البطش)، «حـين دعـاني للـوصال» (ألحان الشيخ سـيد درويش)، «هـل لي إليك يـا بعيـد سبيل» (ألحان عدنان أبوالشامات)، «منيتي عـز اصطبـاري» (ألحـان الشيخ سيد درويش)، «ملا الكاسات» (ألحان محمد عثمان)، «يا شادي الألحان» (ألحان الشيخ سيد درويش). وهناك موشحات بألحان قـديمة من التراث مثل: «فيك كل ما أرى حسن»، و«كحل السحـر عيونا»، و«اجمعـوا بـالقـرب شملي»، و«بـدت من الخدر»، و«بالذي أسكر»، وهناك موشح شهير «أيها الساقي» شعر ابـن زهـير الأندلسي، وموشح «جـادك الغيث» شعر لسـان الدين بن الخطيب، بـالإضافـة إلى فاصل «اسق العطاش»، ومجموعة مـوشحـات غنيتُها مع المطربة وردة في البرنامـج التلفزيوني «الوادي الكبير»، وهي من ألحان محمد محسن، وبليغ حمدي، وعدنـان أبوالشامات.

ويَنصح فخري من يودّ التـوسـع في الاطـلاع على الموشحات، وما تعنيه، أن يستعين بكتاب «الموشحـات الأندلسية، نشأتها وتطورها» للأستاذ سليم الحلو. ويعتبر الموشحات لغة تعتمد على الوشي والتزيين والإيقاعات البهيجـة، وتبعث على التطـريب النفسي العميق، وإذا كـان الملحنـون المعاصرون يبتعدون عن تلحينها فلأن تلحينها مهمة صعبة تتطلب قدرة استثنائية في التلحين، على عكس مـا قد يبدو للمستمع. أما التسميـة، فقد جـاءت من خرجات الموشح وأغصانه التي كالوشاح أو الإشاح (كرسان من لؤلؤ وجواهر منظـومان، مخالف بينهما ومعطـوف أحـدهما على الآخـر... تتوشح المرأة بـه، وهو أيضا سير منسوج من الجلد يرصع بالجوهـر، تشده المرأة بين عاتقها وكشحيها).

أما من جهة إدخـال ألفـاظ الترنم على الموشحات، مثل: «يالالا... يا لاللي أمان... أه يا عيني»، فذلك لإكـمال تطابق الإيقـاع الغنائي، الذي يراد التلحين عليه، لإكـمال أطقم الميزان الإيقاعي الموسيقي، ويتم تلحين الموشحـات على موازين موسيقيـة خاصـة، ومنها: السماعيات (كـالثقيل)، والدارج، واليورك، والسربند، والاتصاق، والظرافات، والـدور الهندي، والجورجنة، والمخمس، والمربع، والمدور، والمصمودي، والعويص، والنـوخت، والنوخت الهنـدي، والسنكين سماعي، والسماعي الدارج. ولعل أظرف ما قيل في الموشحات، ما جاء على لسان ابن سناء الملك: «ملحة الدهر، وبابل السحر، وعنبر الشجر، وعود الهند، وخمر القفص، وتبر الغرب، ومعيار الإفهام، وميزان الأذهان، ولباب الألبـاب تلهي وتطـرب، وتؤيس وتطمع، وتخلب وتجلب، وتفرغ وتشغل، وتؤنس وتنفر، هزل كله جد، وجد كلـه هزل، ونظم تشهد العين أنه نثر، ونثر يشهد الذوق أنه نظم».

الموشحات من الأندلس إلى المشرق

الموشحات في أصلها أنـدلسية، انتقلت إلى المشرق العربي أواخر القرن الخامس، إذ جاءت مع الوافـدين من الأدبـاء والمغنين وأهل العلـم والموسيقى، وقد ازداد اهتمام المشارقـة بها في القرنين السابع والثامن، ونبغ في نظمها شعـراء كبار من مصر والشـام، وهناك مختارات كثيرة منها لدى يـاقوت الحموي في «معجم البلـدان»، ولـدى ابن أبي أصيبعـة في «طبقـات الأطباء»، ولدى ابن شاكـر في «فـوات الوفيات»، ولدى الصفدي في «توسيع التـوشيح»، وأهم جامع لهذا الموضوع كتاب «دار الطراز في عمل الموشحات» لابن سناء الملك، الذي حققه ونشره الـدكتور جودت الركابي.

شادي عباس

«أنا في سُكرين» أشهر أغاني صباح التي أعاد تلحينها وغيّر بعض كلماتها

سهرات التلفزيون ساهمت في انتشاره وأهمها «خيمة حماد»

«سهرة الحمام» أطرف وأجمل ما مر بصباح في حفلاته الحلبية

10 ساعات من الغناء المتواصل في كاراكاس أدخلته موسوعة غينيس

صباح يؤذن بالجامع الأموي في حلب تكريماً للرئيس عبدالناصر
back to top