وجهة نظر: الاقتصاد الحر بين الدولة وأزمات القطاع المتنكّر

نشر في 25-08-2020
آخر تحديث 25-08-2020 | 00:30
 نجيب حمد مساعد الصالح

الخلاصة

الهدر والفساد من الأمراض التي أصابت الكويت نتيجة علاقة قديمة بين الدولة والمواطن، أساسها أن يحصل المواطن على التثمين والدعم والتوظيف، مقابل سيطرة الدولة على كل الأنشطة دون منافس. لن تنجح في ظل هذه العلاقة أي مبادرة للإصلاح، ولابد من إعادة توزيع الأدوار على أساس نظام «الاقتصاد الحر»، الذي يرتكز على تفعيل دور المواطن بالسماح له بمنافسة الدولة في كل ما تقوم به من أنشطة، لتقليص دورها التنفيذي وبالتبعية حجمها، وتفعيل دورها الرقابي في الإشراف والحماية وتطبيق القانون.

العقبة أمام الاقتصاد الحر

في عام 2014 حذّر علماء متخصصون من عودة فيروس «كورونا» بصفات أكثر خطورة على الإنسان من سارس وإيبولا، حينئذ عرض الرئيس الأميركي على الكونغرس، خطة لتطوير نظام للوقاية من الفيروس والحد من انتشاره. ولأسباب سياسية، وربما انتخابية، رفض الكونغرس تخصيص 6 مليارات دولار لتنفيذ الخطة، لكنه في عام 2020 وافق بسرعة على تخصيص 3000 مليار دولار بعد أن انتشر الفيروس في كل أنحاء العالم وتحول للجائحة. لم يُحاسَب من رفض الوقاية عام 2014، ولا مَنْ صرَف ودعم دون حساب لعلاج آثارها هذا العام.

هكذا يستغل البرلمانيون الأزمات لمصلحتهم دون مراعاة للمصلحة العامة، وهكذا تحولت الديمقراطية من أفضل الأنظمة التي تراعي رغبات الشعوب وحقوق الأقليات، إلى نظام مبني على رشوة الناخب، لتُرضيه على المدى القصير وتلهيه عن المستقبل.

معظم الأزمات التي عاصرتها في الكويت، لم تكن في نظري أزمات حقيقية تستدعي استخدام المال العام لإنقاذ الاقتصاد الكويتي، بل أعذار لمزيد من الهدر أو لحجب أخطاء سابقة، آخرها، كان تحذير وزير المالية لمجلس الأمة من أن الدولة ذات الاحتياطات التي تتجاوز 600 مليار دولار لن تتمكن من سداد رواتب شهر ديسمبر بسبب السيولة.

أما أولها فقد كان عام 1977 حين انهارت أسعار الأسهم المحلية بعد فورة جنونية استمرت عدة سنوات، بسبب ارتفاع كبير في إيرادات النفط، تدخلت الدولة حينئذ واشترت أسهماً بحوالي 150 مليون دينار. أنقذت المتداولين وشركاتهم، وعززت في الوقت ذاته قناعتهم بجدوى العودة للاستثمار بالأسهم من جديد، مما شجعهم وغيرهم من المواطنين على الاستقالة من وظائفهم وإهمال أعمالهم ورهن أصولهم للتركيز على الأسهم. فعادت الفورة من جديد وارتفعت الأسعار بدرجة جنونية، حتى انهارت عام 1982 فيما سمي بأزمة المناخ. كانت أكبر وأخطر من الأولى، إذ بلغت قيمة الشيكات المؤجلة بين المتداولين 27 مليار دينار، فتدخلت الدولة من جديد كما كان متوقعاً، ولكن هذه المرة بنهج مختلف عما تعوده المتداولون، إذ صرّح وزير المالية في ذلك الحين الأستاذ عبداللطيف الحمد، بأن علاج الأزمة «سيكون لابس عقال»، وأساسه الالتزام بمبدأ «العقد شريعة المتعاقدين».

أرعب هذا التصريح العديد من المتعاملين وشجع الكثير منهم على تكثيف اللقاءات بينهم لإجراء تسويات ودية، تفادياً لترك الموضوع بيد القضاء، لكن التسويات توقفت بعد تغيير الوزير، ودخول الدولة كطرف ثالث بين الدائن والمدين بتشريعات وقرارات سياسية غير مناسبة، خفّضت من التزامات القادرين على السداد، وعاقبت المعسرين، فخلقت من الأزمة الواحدة عدة أزمات مازال بيننا من يعانيها.

في حين كان من الممكن علاجها بأسلوب أسرع وبتكاليف أقل لو أتاحت الفرصة لديناميكية الاقتصاد الحر، والتزمت بمبدأ «العقد شريعة المتعاقدين»، ولكن هكذا يتم علاج الأزمات في الدول الديمقراطية الغنية؛ جهود ومصاريف كبيرة تبذل في البحوث والدراسات الاقتصادية، ثم يُترك القرار بشأنها لسياسيين أو متنفذين بأولويات مختلفة، فتنحرف عن أهدافها وتفشل. تكرر المشهد في أزمة الرهونات العقارية عام 2008 التي استفادت منها بعض المؤسسات لتغطية خسائر لا علاقة لها بالأزمة، ولن أستغرب لو تكرر المشهد من جديد لعلاج آثار أزمة «كورونا» على القطاع الخاص.

الحقيقة أن البلد الذي يعتمد معظم سكانه في رزقهم على الحكومة ليس لديه قطاع خاص. والقطاع الذي تدعمه الدولة في الأزمات ليس إلا قطاعاً حكومياً متنكراً في زي القطاع الخاص، يتم دعمه وتعويضه من باب المجاملة والتنفيع. تدعوه الدولة للمشاركة في كل لجانها وهيئاتها ومشاريعها الكبرى. ترزّه في المؤتمرات الدولية واستقبال الوفود وحين تراكمت لديه الثروة تحول اهتمامه من كسب المال إلى كسب النفوذ، فجعل من الصوت سلعة تباع وتشترى للسيطرة على ما تبقى من مرافق تركتها الدولة للمواطنين، كالنوادي والمجالس والجمعيات، بما فيها الجمعيات الخيرية التي تضخمت أرصدتها في المصارف المحلية والخارجية، ولم يعد عمل الخير فيها يتصدر أولوياتها، ومستوى الفساد لديها لا يقل عن مستواه في أجهزة الدولة.

إننا ربما البلد الوحيد الذي قوانينه ما زالت تعتبر الشيك أداة سداد كالورقة النقدية، فتحكم بسجن المدين بدلاً من إعلان إفلاسه، لتجعل سداد الشيكات للتجار وتحصيل أموالهم من أعمال الخير التي تضيفها وزارة الشؤون لأهداف الجمعيات. إننا البلد الوحيد الذي لا يمكن لشبابه شراء سكن معقول بدفعات شهرية من مرتباتهم في حين أن 90 في المئة من أراضيه غير مستغلة، لأن الدولة تركت للقطاع المتنكر مجالاً للمضاربة بالنسبة المتبقية من الأراضي، ولذلك نجد العائلات المتعففة تنتظر المعونة من الجمعيات الخيرية في بيوتها التي لا تقل قيمتها عن نصف مليون دينار.

اقتصاد الظل

لا شك أن للدولة وتوابعها المذكورين، دوراً أساسياً فيما نشهده من انتشار لاقتصاد الظل، لأنها بدعمها وحمايتها لمؤسسات احتكارية مريضة، من وزارات الخدمات، إلى المشروعات السياحية والأمانة العامة للأوقاف والخطوط الجوية الكويتية وشركة المطاحن والهيئة العامة للاستثمار والتأمينات الاجتماعية، توفر لاقتصاد الظل البيئة المثالية لينمو ويزدهر خارج الرقابة والقانون.

حين يكون المحاسِب والمحاسَب من نفس الفريق الذي يفرض الممنوعات ليتاجر بها بما لديه من صلاحية الاستثناء، لا يمكن أن تكون الرقابة مفعّلة مهما تعددت الهيئات الرقابية وتضخم جهازها الوظيفي.

من حق الدولة أن تعفي مواطنيها من الضرائب، ولكنها أولى من غيرها بما يدفعه المواطن من مبالغ كبيرة لاستخراج رخصة بناء، أو لفرز قطعة أرض وتوصيل تيار، أو لجلب عمال مشاريع وعمالة منزلية. كل دول العالم توجه سلوك شعوبها من خلال الرسوم والإعفاءات ما عدا بلدنا الكريم، الذي «يتشاطر» فقط على سوق السمك فيدفعه لاستخدام أساليب مروجي الخمور والممنوعات لتسويق صيده. أو يعترض على شركات خدمات التوصيل لاحتكارها للخدمات، وفي نفس الوقت يوقف إصدار تصاريح جديدة كان بإمكانها محاربة الاحتكار بأسلوب الاقتصاد الحر.

منذ ثلاث سنوات تقريباً تم إنشاء «الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة» لدعم مبادرات الشباب، وسبقته تجربتان مضي عليهما عدة سنوات؛ الأولى، على ما أذكر، كانت عن طريق البنك الصناعي وخصص لها حوالي 20 مليون دينار، والثانية مؤسسة منفصلة عن الهيئة العامة للاستثمار خصص لها 100 مليون دينار، لذلك توقعت في التجربة الثالثة، وبعد مرور ثلاث سنوات على إنشاء الصندوق الأخير برأسمال ملياري دينار، أن أجد قائمة كبيرة من المنتفعين، ولكنني صُدِمت حين علمت أن الرقم لا يتجاوز دعم 50 شاباً فقط.

ما لا تدركه صناديق الرعاية أن الدعم المالي وحده لن يجذب موظف الحكومة الذي تعود على وظيفة دون عمل، ولأن المبادر صاحب الفكرة لا يعرف الواسطة، وليس بحاجة لأن تقوده غرفة من الأغنياء. يعمل بصمت في المجالات المتاحة ليتعلم ويكتسب الخبرة اللازمة، قبل النظر في الأمور المالية. وما قد يحتاجه من دعم في البداية لا يتجاوز مساحة من الحرية في اختيار مجال العمل، إن حاجة الكويت لهؤلاء المبادرين تتجاوز حاجتهم لها، سواء كانوا مواطنين أم وافدين.

بذرة التنمية

في صميم كل مواطن دون الخامسة والعشرين بذرة بإمكان الدولة أن تغذيها بالتعليم ثم تطلقه لينمو في المجالات المختلفة للاقتصاد الحر. إنه الجيل القادم الذي يتجاوز عدده نصف عدد المواطنين، لذلك علينا حمايته من الوظيفة الحكومية. لماذا لا يتم تشجيعه على البحث عن عمل خلال فترة الدراسة ليكتسب المصروف مع خبرة إضافية، لا نريده أن يتعلم أسلوب المرور بإلغاء حارة الأمان لعلاج زحمة الطرق، ولا زراعة المزيد من المطبات في الطرق لعلاج السرعة. أو طرد من يبلغ الستين من عمره لعلاج التركيبة السكانية. لماذا لا نسمح لموظف الدولة بالعمل الحر بالإضافة للوظيفة الحكومية لدعم خبرته ودخله؟ لعله يتمكن في يوم ما أن يحل مكان وافد. وما المانع أن يتم تطبيق ذلك أيضاً على الوافدين بإلغاء نظام الكفيل لتحسين مستواهم المعيشي وحماية كرامتهم وتخفيض عددهم؟ وكذلك وبمناسبة تعيين 6 قضاة من النساء، هل حان الوقت لمساواة النساء بالرجال بتعديل القانون لتتمكن الزوجة أن تمنح حق الجنسية لزوجها وأبنائها؟ أتوقع باتخاذ هذه القرارات وبعد إضافة المستحقين للجنسية من البدون، سيتم تصحيح التركيبة السكانية خلال سنتين بنسبة تتراوح بين 15 و20 في المئة على أقل تقدير.

آخر الكلام، أرجو إعادة قراءة الخلاصة.

back to top