مَنْ عليه الدور...؟

نشر في 19-11-2019
آخر تحديث 19-11-2019 | 00:01
 حمود الشايجي (1)

«مَنْ عليه الدور؟»، ألقى الشيخ مراد نظرة على كل رجاله، «أنا، يا شيخ»، جاء الرد من شملان، أحد فرسان الشيخ مراد، «عجِّل يا شملان، وخذ بشارتك». قفز شملان على فرسه، والشيخ مراد وباقي الرجال يراقبون، «المُبشِّر»، الذي راح يجري بفرسه ناحية أطراف نجد، التي سيدخلها قبلهم ويبشِّر إخوة الشيخ مراد وأبناء عمومته، ليجزلوا له من العطايا والمال.

(2)

بعد صلاة الفجر، تهيأ كل مَنْ في القافلة، تحرَّكوا بخطوات ثابتة إلى غايتهم، أرض الشيخ مراد، الذي راح يستنشق هواء نجد ويملأ به صدره، مع كل خطوة يقترب بها من أهله وناسه كان شعوراً بالسلام يغزوه، يُحرره من عناء السفر، وعناء الغربة التي لا يطيقها، ولولا تجارته ورزقه الذي يجنيه منها، لما خرج من أرضه، نجد، جنَّته التي يعشق.

«اليوم في شي غريب»، ردَّدها الشيخ مراد بينه وبين نفسه، وهو حريص على ألا يسمعه أحد، حتى لا ينتقل القلق إلى مَنْ معه. رغم أنه متأكد أن كل مَنْ معه، أو على الأقل رجاله الذين ارتحلوا معه مرات عدة، على علم بأن هناك أمراً غير اعتيادي قد حصل.

اقتربت القافلة أكثر من أرض نجد، التي خرج منها شبح راح يتشكَّل للناظرين على شكل فارس، كلما اقترب صارت هيأته تكشف أنه متعب بن سلطان، ابن عم الشيخ مراد، يوقف القافلة برفعة من يده، ينزل الشيخ مراد من فرسه، يُسلِّم على ابن عمه، يُقبِّله، يحضنه، ثم يستجيب لطلب متعب بالجلوس.

(3)

- البقا براسك.

- من اللي فات؟

- الشيخ غانم.

- لا حول ولا قوة إلا بالله. من متى؟

- من أسبوع.

- لا إله الله. عسى الله يرحمه.

- ويرحمنا معاه.

- يا متعب، على لسانك سالفة؟

- يا ولد عمي، الشيخ غانم كان شيخنا وشيخا لقبيلتنا لمدة ثلاث وعشرين سنة، لا طلعنا عن طوعه ولا عن رايه، لكن أن تكون الشيخة فيكم هذا اللي ما نرضاه لا أنا ولا إخواني.

- لكن الشيخة يا متعب، معروف وين رايحة بعد الشيخ غانم، وكلكم رضيتوا بي.

- لا يا مراد، مو عقب اليوم، لك في نجد حق الضيف، ثلاثة أيام بالوفا والتمام، تصفي حلالك، وتطلع وما ترجع لها أبد.

- وإن كان رايي غير هالراي؟

- تندفن مكانك، التفت حولك، وشوف كم بندق ناطرة الإشارة مني لتجيب راسك.

(4)

التفت الشيخ مراد، رأى حلقة من البنادق موجهة فوهاتها ناحيته وناحية القافلة، لم يؤلمه ما رأى، لكن قلبه ذبل عندما رأى أخويه بدر وسيف ممن كانوا يحملون البنادق الموجهة إليه، أخويه اللذين كانا بالنسبة إليه كأبنائه، حتى إنه دائماً ما كان يقول: «إذا ما حرمني الله الولد، فبدر وسيف هم عيالي». لحظة رؤيتهما كانت هي اللحظة التي حسمت الحرب لمصلحة متعب.

اعتلى متعب فرسه، وكذلك الشيخ مراد، تجاورا في خطوهما، متجهين إلى نجد، التي باتت بقبائلها وشيوخها على موت الشيخ غانم منذ أسبوع، وصحت اليوم على تنازل الشيخ مراد للشيخ متعب عن شيخة قبيلتهم. تعددت الألسن التي تحيك الحكايات عن هذا التنازل، لكن الناس سارعوا إلى نسيان الحكايات حكاية فحكاية، بعد ليلة أقامها الشيخ متعب استقبل بها نجد كلها، لتبارك له بالشيخة، ليلة أسرف فيها متعب بكل شيء؛ المأكل والمشرب والعطايا، حتى قيل إنه ذبح أكثر من خمسين «قعودا» ومئتي رأس من الخراف، فضلا عن مئات الأمتار من الأقمشة، ومئات السيوف والخناجر المرصعة بالجواهر والأحجار الكريمة. كانت عطايا متعب لكل مَنْ دخل عليه من دون استثناء. ومَنْ لم يدخل عليه في هذه الليلة، كانت ذاكرته كفيلة بأن تُسجله عدواً يجب التعامل معه.*

* من رواية جليلة

back to top