غاسل صحون يقرأ شوبنهاور

نشر في 01-03-2019
آخر تحديث 01-03-2019 | 00:00
No Image Caption
«ثمّة جُمَل مثل الأقدار ترسم لك حياتك»، قال صديقي، ثم أضاف وهو ينظر إلى عينَيّ الحزينتين: «إنّها لعنة اللغة».

كنت جالساً بالقرب من النافذة المطلّة على شارع ركب. نظرت إلى مقهى رام الله وإلى محلّ الحلويّات، وإلى المارّة، فرأيت عمري المبعثر على رصيف الشارع، يدوس عليه الناس بالأقدام. حينها تذكَّرت جملتين مفصليّتين في حياتي. الجملة الأولى تعود إلى أبي، قالها في موسم قطاف الزيتون، عندما كنت أشدّ حمارتنا نحو صخرة عالية، كي أمتطيها: «يابا، ما تكرّر غلطي». لم يفسّر لي شيئاً، ولم يُضف كلمة واحدة. بعد مرور عدَّة سنوات، أخبرني روايتين مختلفتين، وشعرت بأنَّ ثمّة علاقة قويّة تربطهما بالجملة التي قالها.

الرواية الأولى: كان أبي يحبُّ اللغة العربيَّة، وقد ذهب إلى دمشق ليدرسها، إِلّا أنَّ جدِّي أجبره على دراسة المحاسبة. لذلك، كره التخصُّص والجامعة ودمشق، فعاد بعد سنة خائباً إلى فلسطين. عرفت هذه الحكاية للمرَّة الأولى. ونحن في مستشفى نابلس، حين كان أبي يخضع لعمليَّة قلب مفتوح.

لم أكن قريباً منه في حياتي مثلَ تلك الأيَّام. كان وديعاً وبريئاً كطفل، ويتحدَّث عن أشياء لم أسمع بها من قبل. كلَّما تقدّمنا في العمر. عدنا إلى نقطة البَدء، كأنَّ الحياة دائريَّة الشكل، والطفل نبيٌّ أو ساحر، يرى العالم بعينين مسحورتين، ولديه لغة لا يفهمها سواه. أبي هادئ، قليل الكلام، وخصوصاً مع أبنائه، لكنّه في تلك الليلة، وهو في سرير المستشفى، تحدَّث ساعة كاملة، من دون أن يشعر بالتعب.

هل هذا هو الخطأ؟ المنعطفُ الذي أودى بحياته إلى مكانٍ آخر؟ والمكان الآخر هو الأرض التي ولد فيها، وعاش من أجلها، وسيُدفن فيها. كنت أقول دائماً إِنّ في حياة كلّ إنسان نقطةً انعطاف، بحيث لا تعود الأشياء نفسها. ونقطة الانعطاف في حياة والدي، تركُه الجامعةَ والعودةُ إلى فلسطين، من أجل رعاية الأرض ووالديه في كبَرهما. هذه هي الرواية الثانية، إذ قال لي: لقد تركت الجامعة، لأنَّ جدّك وجدّتك بقيا في البيت وحدهما، بعد أن سافر أعمامك إلى الأردن للدراسة.

قلت لنفسي، وإن تعدّدت الروايات، إِلّا أنَّ الخطأ واحد. إنَّها التضحية. والتضحية كانت بالنسبة إليّ فكرة بلهاء؛ إِنّها العيب الذي يظنّه الكثيرون ميزة.

الجملة الثانية تعود إلى أمّي، وأمّي امرأة بسيطة، طيِّبة القلب، في أواخر الخمسينيّات، ترى في أولادها العالم. كانت تحفظ بعض المعلّقات، وأنشودة «طلع البدر علينا»، وتتذكّر كل ما تعلّمَته في المدرسة. قالت لي في أحد الأيّام ممازحة «إلّي مالو حظّ لا يتعب ولا يشقى». وهذا مَثَل شعبيَ فلسطينيّ، كلّه نحس بنحس. بالتأكيد، قالت ذلك بعفويّة، فلم تكن تقصد إيذائي، لكنّها دفعتني إلى أن أنظر إلى وجهي في المرآة كلَّ صباح، باحثاً فيه عن الشؤم وسوء الحظّ.

زياد طالب ماجستير في علم الاجتماع، من إحدى قرى نابلس، عرّفني إليه صديقٌ آخرُ من قريتي. بدأ حياته الفعليَّة طالِبَ علم اجتماع في جامعة بيرزيت، أمّا قبل ذلك، فقد صاغ والده أدقّ تفاصيل حياته. كان في وسعه أن يكون الولد المطيع لمدير أوقاف نابلس، الذي تعيّن في أثناء فترة حكم «حماس» بعد الانتخابات التشريعيّة عام 2006 م، إلَّا أنه تمرّد على سلطة الأب وتقاليد العائلة. لم يكن يتصوّر أنَّه سيخرج عن طاعة والده في يوم من الأيّام، إلَّا أنَّ الأمور وصلت في النهاية إلى طريق مسدود.

كان والده يضربه باستمرار؛ يكسر أحد أطرافه أو يجلده بعد أن يعلّق جسده الهزيل في السقف. وقد وصلت هذه الممارسات إلى ذروتها، حين ترك دراسة الشريعة ليدرس علم الاجتماع في بيرزيت، ويلتحق بالقطب الطلّابيّ الديموقراطي في الجامعة.

أجلسه يومها على الأرض بعد أن ربطه، ثم ضربه بالحذاء وداس على رأسه. ضربه بلا رحمة. أُغمِيَ عليه عدّة مرّات، ولم يدرِ كيف ظلَّ في قيد الحياة. بعد يوم كامل من الضرب والشتائم، وجد نفسه في الشارع. من دون مأوًى أو مصدر رزق.

أمّه لم تدافع عنه؛ لم تقاتل من أجله. كانت ضعيفة وخائفة. قال لي: أرادت أن تورَّثني الخنوع. وعندما نصحَته بالرجوع إلى حظيرة الوالد «الله يستر عليك يَمّا، أنت قطعة منِّي، اسمع وما تغضب أبوك منك، أنا شفت الويل واتحمَّلت، إجى دورك تتحمّل، بيظلّ أبوك»، انفجر في وجهها. كان يقول لها: لن أعيش حياتك؛ لن أكرَّر أخطاءك .

قال لي في لقائنا الأوَّل، بأسلوبه الساخر، الموشَّى بالفلسفة بعيداً عن السياسة، التي اعتاد الحديث فيها: «آلهتي النراجيل. إِنّها مَن تهب الحياة معناها». قلت له ممازحاً «أنت تبالغ». «لقد جمعت العناصر اليونانيّة كلّها، حيث انبثق الكون: الماء، والنار، والهواء، والتراب،» أجابني نافثاً الدخان في فضاء المقهى.

كان ذلك اليوم، يومَ عطلتي عن العمل. لم أكن محرِّراً في صحيفة مرموقة مثل زياد، بل كنت أعمل غاسل صحون، في مطبخ أحد المطاعم في رام الله. ومن سوء حظِّي أنه كان جديداً، وقد كنت حاضراً نهارَ الافتتاح. لذلك «اتخوزقنا»، كما قال لي مطر، زميلي في غسل الصحون، وهو أستاذ علوم، متعدّد المواهب، يعرف في الأدب وتصليح الأجهزة الكهربائيَّة، وكتابةِ رسائل الحبّ للعاشقين من سائقي السيّارات العموميَّة، وأصحاب البسطات في شوارع رام الله.

عندما رأيت الإعلان على موقع «شو بدَّك من فلسطين»، حملت حقيبتي الصغيرة، وأخذت سيّارة عموميَّة من مجمَّع طولكرم. بعد أن وصلت إلى مدينة رام الله، واجتزت شارع الإرسال، رأيت فجأة جسداً ثقيلاً يرتطم بالأرض. كان الرجل كثَّ الشعر. عيناه كانتا بارزتين للخارج، وشفتاه جافّتين، في وجه قديم ومتعفِّن. كان من الواضح أنّه متشرَّد ميّت. الناس وقفت على قارعة الطريق، تنظر إليه من بعيد، من دون أن يتقدَّم أحدهم لرفع الجثّة.

كنت أكثر جُبناً ونذالة، فلم أملك الجرأة على فعل أيّ شيء. بعد لحظات، رأيت الجموع تتقدَّم وتشكّل حلقة زاحمة حول الجسد. أعناق تطاولت من الرصيف المقابل، لترى ما حدث. أحاطت المدينة بجثّة المتشرِّد، وتدافعت نحوه من جميع الاتّجاهات. لم أكن أعلم قبلها بأنَّ ثمّة متشرِّدين، وشحّاذين، ومتسكّعين في شوارع رام الله.

بعد أن اجتزت شارع ركب، وعبرت بعده شارعاً فرعيّاً، وجدت المطعم ووقفت أمام رجل طويل، يرتدي بذلة سوداء، والكوفيّة الفلسطينيّة تتدلّى من رقبته. عرفت أنه قياديّ في حركة «فتح»، وهذا القياديَ أخذني من يدي إلى المطبخ، بعد أن اتّفقنا على الراتب، 1800 شيقل، «لأنَّك مثقّف وخرّيج بيرزيت».

كان المطبخ في غاية القذارة. الأطباق والكؤوس ملقاة على الأرض؛ بقايا الطعام وأدوات الطبخ متراكمة في المجلى؛ كثير من أكياس النفايات، والروائح الكريهة كانت تنبعث من كلّ مكان. ثم قال لي بلهجة ثوريّة: اهجُم. فهجمت كمقاتل في ساحة معركة، ورحت على مدار ساعات طويلة، أتنقّل بين الأواني والصحون والمغارف والطناجر.

back to top