لحن الفقد والألم «2»

نشر في 04-04-2014
آخر تحديث 04-04-2014 | 00:01
 ابتهال القزويني حملته أكف أخوته ... سجي الجثمان الطاهر... عاد إلى أديم الأرض ورحلت الروح إلى عليين مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا...

تداعت هي مغشيا عليها ... أضناها الحزن وشنجها الألم ... تلقفتها أذرع المولولات النوائح وهن يسفحن دموع التفجع ويندبن بصوت اللوعة المخنوق شبابه الغض....

أبخرة القهر المتصاعدة في جوفها صبغت روحها بالسواد وجثمت الرزية على صدرها فخنقت منها الأنفاس ...و والدتها بقربها تسح الدمع بصمت حاسرة عن تاجها الفضي ... رافعة كفها بدعاء المظلومين لناصر المظلومين وقاصم الجبارين... ووحيدها في مهده يحدق بعين البراءة والطهر والنقاء غافلا عما يدور حوله هائما في مغاني الطفولة العذبة ... حملته ...لامست خده ... همست وتقاطر دمعها :أيها اليتيم ... يامن جرعك أربَاء الشيطان اليتم باكرا ... يا وليد الأيام العجاف والزمن القاسي ... اعلم صغيري إن بفراقك فراق روحي ... ستظل معلقا بين ذراعي وسيظل رسمك البديع نجمتي الزاهرة في بهيم ليلي ... أبوك الرحوم أقصاه الموت وعرج بروحه إلى السماء ... وأنا سائرة على خطاه مكملة مسيرته نحو الحرية ... فلا خير في روح مكبلة بجسد يرزح تحت نير الظالمين ...أريد لها أن تنفلت لتحوم في سماء لا تكدرها غيوم الجور والطغيان ...واعلم لئن يلتهم الموت جسدي وتمتص دمي رمال بلدي .. لأحب إلي من حياة الذل والهوان ...

تجافى جنبها عن مضجعها ... ظلت لياليها أرقة، تتقلب على جمر الانتظار لحين

انقضاء أيام العزاء ...

تلفعت بخمارها وتمنطقت بعزم الثائرين تحث الخطى نحو محراب الجهاد .... حيث خالد وفلاح وحسين .... حصة وفاطمة ونورة ... أخوة الإباء والفداء....

استوقفتها الوالدة بعينيين متسائلتين: إلى أين العزم؟

أجابتها مقطبة الجبين جادة الملامح ... وصيتي ولدي ....

أدركت الأم غايتها فناشدتها بصوت متهدج تخنقه العبرات ... رحمة بي وبكبرتي ... رحمة بهذا اليتيم ....

- بل رحمة به وبسواه سأذهب ... تعلمين ماكنت مفارقة درب زوجي لولا امتلاء بطني ... لقد آلينا أن نبني من جماجمنا صروح مجدهم ونرسم من دمانا خارطة مستقبلهم ونخط تاريخا سيظل مفخرة الأجيال والأزمان.

توسلتها الأم والدمع المنهمل يغسل وجهها الطيب: لا تجددي يتمه ... لا تحرميه أمه بعد أن حرم من أبيه ... أرخص عندك لهذا الحد؟

-حاشا لله ... ولكن بلدي أغلى من ولدي ... ألا نقدمهم قرابين فداء للذود عن حماه!  ...ألا ندخرهم لحين ينفخ للنفير!

برقت عين العجوز كمن غرب أمر عن عقله ثم آب، فاعتدلت قائلة: لا يجوز ياابنتي لا يجوز...

اغتصبت ضحكة وهي تقول: لا يجوز الدفاع عن وطني! ....عجبا عجبا!

لا يا ابنتي ما قصدت هذا ... وهل يعقل !... إنما للأرملة عدة تعتدها ......

جمدت هي وتراخت جاثية ... لفها يأس مقيت عصر أحشاءها وفاقم همها .... أجرت دمعها وهي تصرخ أما من مخرج... أما من مخرج يسعفنا به شيخ أو ذو علم يروم ثوابا... ألا أستطيع فعل شيء.... وانخرطت في بكاء مرّ....

احتضنتها الأم الرؤوم جاهدة تهدئتها... بلى ... للجهاد وجوه ولن نعدم بابا لذلك ...فاصبري وصابري وتوكلي لعل الله يغير من حال إلى حال ....

ولم يطل صبرها,ولم يمتد الزمن بها , حتى بدت بشائر التحرير تلوح في الأفق ...  وأقبلت رايات النصر تميس جذلا في سماء الحرية,فانتعشت النفوس الذابلة ,وانتشت الأرواح,وبلسم الظفرالجراح .

رفعت ولدها ضاحكة السن طلقة المحيا ... غمرت وجهها في صدره الصغير فأصدر صوتا رقيقا عذبا تطرب له ملائكة السماء ... فرح بدلال أمه مستأنس بوجهها البشوش وعينها الناضحة بالأمل ...

وهنااخترق المسامع دوي كهزيم الرعد اهتزت له الجدران وتراقصت معلقات الدار .... جفل الصغير وتقلصت ملامح وجهه اللطيف هاما بالبكاء ... ضمته الأم وهي تناجيه ... لا تخف يا قرة عيني ... إنها نيران برد وسلام علينا وشهب حارقة تلهب أعداءنا ... إنها سيوف الحق والعدل تجز رؤوس الظالمين .... إن كانوا ريحا فقد لاقوا إعصارا.... ها هو يوم القصاص قد قدم ... فبشرى .... ستكبرون على أرض العزة والكرامة...

ضحك الصغير ... تعالت ضحكات وضحكات وناغى اليتامى في حجور أمهاتهم أرواح الشهداء الذين نزفت دماؤهم لتنبت لحمانهم الطريةاللدنة في رياض الحرية والسلام ......

back to top