في النشر العربي (1)

نشر في 08-09-2021
آخر تحديث 08-09-2021 | 00:01
 طالب الرفاعي كان يوماً مختلفاً في عمري؛ يوم نشرت أول قصة قصيرة لي بعنوان «إن شاء الله سليمة» بتاريخ 17 يناير عام 1978، في جريدة «الوطن» الكويتية، يوم كان رئيس تحريرها الأستاذ محمد مساعد الصالح، يرحمه الله. في ذلك اليوم كان الملحــــق الثقــــــافي، برئــــاســــــة الكاتب الفلسطينــي وليد أبو بكر، وفوجئت حين وصلني تلفون من الروائي إسماعيل فهد إسماعيل يسألني: «هل قرأت جريدة الوطن؟». حينها كنتُ طالباً في كلية الهندسة والبترول في جامعة الكويت، فأجبته: «لا». وبصوته الجهوري قال لي: «اذهب واقرأ»، وسكت لم يكمل عبارته، وأنهى المكالمة: «نتكلم بعدين!».

كنتُ قد تركت عنده إحدى قصصي، وكان فرحاً بها بعد قراءتها، وقال لي: «قصة مستوفية لشروطها الفنية، وسأرسلها للنشر». وعلى طريقته لم يحدد لي منبراً، ولا أبان متى سيرسلها، وعلى طريقتي لم أسأل عن شيء. لكن، ما إن تصفحت جريدة الوطن، حتى عثرت على قصتي منشورة هناك، وتحتل معظم الصفحة، وبتقديم من الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، يشير فيه إلى قدوم صوت قصصي شاب موهوب، وأنه ينضم لقافلة من الكتّاب الكويتيين، حيث سليمان الشطي وسليمان الخليفي وليلى العثمان ووليد الرجيب، وها هو طالب الرفاعي.

مشاعر وأحاسيس شتى انتابتني وأنا أقرأ كلمات تقديم الأستاذ إسماعيل، وكذا لحظة أقرأ كلمات قصتي، ودار ببالي: هل أصبحت كاتباً؟ هل سأغدو مشهوراً؟ مَن تراه قرأ قصتي، وماذا قال عنها؟ ومتى تراني سأنشر قصة جديدة؟ وكيف ترى سيستقبلني أصدقائي في الجامعة والديوانية؟ وكيف ستنظر لي فتيات الجامعة؟ وهل سيكون لي معجبات؟

مشاعر كثيرة تناوبت عليَّ، وخلفها كلها لاح لي طيف سحرٍ باسم، وكأجمل ما تكون فتاة بارعة الجمال وراح يُشير لي قائلاً: تعال! مسافة صغيرة بقيت لك، وتكون كاتباً، وتكون مشهوراً، وتكون حديث المجالس الأدبية، وتُصدر كتباً، وتكون حلم كل فتاة! وتكون، وتكون، وتكون... بقيت لمدة أنظر إليه، وأسمع همسه المدوِّخ، ولم يزل هذا الطيف الساحر يشير لي، ويسحبني وراءه، بالرغم من مرور ما يزيد على الأربعة عقود، وبالرغم من كل الأوجاع التي أدمت قلبي، فإنه ما زال يشير لي ويمنّيني، ولم أزل كالمنوّم أسير خلفه، وكأني بالأمس بدأت!

منذ نشر القصة الأولى، بدأت رحلتي مع النشر كما هي مع الكتابة، فكل كاتب إنما يكتب لينشر، وقلة قليلة جداً، كتبت لغير هدف النشر، واكتفت بأن تخطّ عوالمها وتبقي ذلك لنفسها، ومن بينها الشاعر اليوناني العظيم «كفافيس»، وإذا كانت الكتابة الإبداعية الأدبية شأناً شخصياً، وأول ما تُعرّف الكتابة الإبداعية الجنس الأدبي، بأنه نشاط أدبي شخصي، فإن النشر شأن مختلف، وأهم اختلاف بينه وبين الكتابة هو أن الأديب يمتلك أداته في كتاباته، لكنه أبداً لا يمتلك منبر النشر، وبذا تأتي وتتضخم سلطة الناشر والنشر!

بدأت حياتي ككاتب قصة قصيرة، في فترة كانت القصة هي الجنس الأكثر حضوراً وانتشاراً ونقداً، إلى جانب الشعر، بينما كانت الرواية وقتها متوارية تحت أقلام كبار، وكأن القصة بسبب الكلمة الثانية التي لحقت بها «القصيرة» هي زاد الصغار والرواية هي مائدة الكبار، علماً بأن مدارس النقد تكاد تُجمع على أن القصة القصيرة هي أصعب الأجناس الأدبية دون منازع.

بدأت النشر في جريدة الوطن الكويتية، لكني سرعان ما رحت أوسّع من دائرة نشر أعمالي القصصية بين المجلات الأدبية في البحرين والقاهرة ودمشق، وكنت حريصاً ولم أزل على الحصول على ما يُنشر لي، لذا لدي ملفات كثيرة فيها قصاصات جميع ما نشرتْ.

ظل ذلك السحر الأجمل يلوح لي بعد كل قصة، وظل يؤمّلني: تعال، لم يبقَ شيء، تكاد تصل، ولسبب كنت ولم أزل أسير خلفه، ودون أن يظهر للدرب آخر!

طالب الرفاعي

back to top