هل «الكارت الأحمر» وسيلة لهروب المتمارضين عقلياً من العدالة؟

نشر في 12-08-2021
آخر تحديث 12-08-2021 | 00:05

المسؤولية الجنائية هي صلاحية الشخص لتحمل تبعات سلوكه الذي قد يشكل جريمة، وأساس تلك المسؤولية لدى الفكر الجنائي الحديث هو حرية الإنسان في الاختيار، فقد كان في وسعه أن يكون خيّراً، لكنه تخلى عن الطريق السوي وسلك المعوج، فحق عليه العقاب، وبالتالي لا تنتفي المسؤولية عنه إلا إذا فقد قدرته على الإدراك والاختيار.

وبين الحين والآخر تقع العديد من الجرائم التي يشيب لها الولدان تحت ستار «المرض النفسي أو العقلي» وهي جرائم شغلت الرأى العام منذ وقوعها، لا لبشاعة تفاصيلها وغموض أحداثها فحسب، بل لزعم أن مرتكبها مريض، فالأب يقتل أبناءه بدم بارد، والزوج يُمثّل بجسد زوجته أو يقتلها أمام أعين أبنائها، والأخ يلتهم أحشاء أخيه في غفلة من الزمن، وبدون مقدمات، وكل ذلك مؤشرات أولية تنذر بأن في بيوتنا قنابل موقوتة.

وفي هذا السياق، أكد متخصصون في علم النفس والجريمة والقانون، استطلعت «الجريدة» آراءهم حول القضية، وجود علاقة بين الجرائم المُرتكبة بأساليب خارجة عن المألوف تسمها بالشنيعة، والأمراض والاضطرابات النفسية التي تلعب دوراً مهماً في دفع الشخص نحو ارتكابها مثل جنون العظمة والفصام والاكتئاب... وفي السطور التالية يجيب المختصون عن بعض الأسئلة المهمة المثارة حول هذه القضية:

هل يوجد ما يُعرف بالكارت الأحمر للمرضى؟

في البداية، نفت أستاذة علم النفس بجامعة الكويت د. نعيمة الطاهر وجود ما يدعى بالكارت الأحمر، مؤكدة أن المتاح لدى المستشفيات بحق المراجعين الكارتان الأبيض والأصفر، اللذان يعطي كل منهما مؤشرا مغايرا عن حالة المراجع.

واتفق معها في الرأي أستاذ علم النفس الإكلينيكي بكلية الطب في الجامعة د. نايف المطوع الذي أكد عدم سماعه عن الكارت الأحمر من قبل، موضحا أن زعم البعض امتلاك ذلك الكارت بما يحمله من صلاحيات غير مشروعة أو ما يعرف بواسطة نفسية هو أمر عارٍ من الصحة.

ووصف رئيس قسم الطب النفسي بوزارة الصحة د. عمار الصايغ الكارت الأحمر بالقصة الخيالية الأسطورية التي لا يعرف حتى سبب نشأتها، مضيفا أنه هو وزملاءه من الأطباء الشباب عادوا للأطباء القدامى من أساتذتهم لسؤالهم حول مصدر هذا الشيء، فأكدوا بدورهم زيف تلك المعلومة.

وأوضح الصايغ أنه منذ تعيينه بالمستشفى لم يتعامل إلا بالكارت الأصفر الخاص بالمراجعات، والذي يتم تسليمه لأي مراجع يفتح ملف بالطب النفسي.

هل يفلت البعض من العقاب لتاريخهم المرضي؟

وأشار د. نايف المطوع إلى أن مصدر هذه الادعاءات ربما وجود هوس بالمجتمع حول أن بعض الأشخاص يرتكبون جرائم يعاقب عليها القانون ولكنهم يفلتون من العقاب بزعم امتلاكهم ملفاً بالطب النفسي يجعلهم غير مسؤولين أو مساءلين عن جرائمهم.

وأكد المطوع أن المخالفات الجسيمة شائعة بالمجتمع من جرائم اختلاس أموال الدولة والسرقة والفساد وربما يصل الأمر إلى العنف والقتل، وقام البعض بتحويل الأمر برمته إلى أطباء الطب النفسي بأنهم يمنحون بعض المخالفين الذين لم يتم مقاضاتهم كارتاً أحمر يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية والقانونية لجرائمهم وهو أمر عارٍ تماما من الصحة ونتيجة لحالة البلبلة والتشويش التي تسود المجتمع، وإلا ما استُمع لهذه الهراءات.

تاريخ مرضي

من جانبه، قال د. عمار الصايغ إن الواقع الحالي شهد إدانة العديد من أصحاب ملفات الطب النفسي في الجرائم التي ارتكبوها، إذ لم يعفيهم تاريخهم المرضي من نيل العقوبة اللازمة، وهو ما يدحض إمكانية الهروب من العقاب بزعم المرض النفسي على أي حال.

وأشار إلى أن بعض المرضى النفسيين أو أصحاب ملفات الطب النفسي يحاولون فعليا التخفيف من أضرار جرائمهم استنادا إلى حالتهم النفسية في حال ارتكاب الجريمة، ولكن القضاء لا يأبه بمثل هذه الحجج، وبالفعل تم انزال العقوبة الواجبة بحقهم ردعا لهم ولغيرهم ممن تسول لهم أنفسهم ارتكاب جريمة ومخالفة قيم وأعراف وقوانين المجتمع.

رأي قانوني

الأمر ذاته أكده المحامي عبدالرحمن الهاملي، موضحا أن المتهم عادة ما يلجأ إلى ادعاء المرض العقلي أو النفسي أو حتى الجنون أحياناً للتنصل من مسؤولية جرائمه، وهي طبيعة انسانية، حيث يخشى الفرد من العقاب، ولكن في النهاية القانون رادع، إذ لابد أن يخشى الفرد العقوبة قبل ارتكاب الجريمة لا بعدها، ولكن في حال سولت له نفسه المخالفة الاخلاقية والدينية والقانونية فهنا يلزم العقاب دون هوادة.

وأشار الهاملي إلى أنه في إحدى الحالات، حصل أحد المتهمين على البراءة في حكم الدرجة الأولى والاستئناف، رغم فداحة جريمته حيث قام بقتل شخصين، حيث دفع بعدم مسؤوليته عن الجريمة نتيجة مرضه النفسي والعقلي.

وذكر أن محكمة التمييز قامت بتعديل هذا الحكم وأدانت المتهم بما ارتكب من جريمة بشعة، بل قضت بأقصى عقوبة ممكنة وهي الإعدام جزاءً لما ارتكبه من إزهاق الأرواح بغير حق.

هل توجد صلاحيات خاصة للمرضى النفسيين؟

ونفى المطوع وجود صلاحيات خاصة بأصحاب ملفات الطب النفسي أو المرضى يحميهم من العقوبة، موضحا أنه بلا شك توجد صلاحيات لبعض المرضى ولكن ليس بالصورة المغلوطة لدى البعض في المجتمع، فمثلا يحصل أصحاب الإعاقات على معاش تقاعدي مثلا أو رعاية خاصة وهو أمر مقبول وإنساني وحضاري على مستوى العالم وليس في الكويت فقط.

وأضاف المطوع: «أما أصحاب التاريخ المرضي بالطب النفسي، ليس لديهم صلاحيات لارتكاب الجرائم دون رادع، مهما بلغت شدة مرضهم، ولكن ربما يتم النظر لحالتهم بشيء من التخفيف أو إخضاعهم لمزيد من العلاج، ولكن الإفلات بأن يتم إطلاق سراح المتهم ليعيش حياة طبيعية وسط الأهل والمجتمع ويكون عرضة لارتكاب ومواصلة جرائمه، فهذا أمر غير مقبول في أي مكان بالعالم وليس في الكويت فقط».

تحقيقات النيابة

وأوضح د. الصايغ أن الخطوات المعتمدة في حال اتهام أحد المرضى النفسيين بارتكاب جريمة، هي عرضه أولا على النيابة، التي تستوضح من خلال التحقيقات أن المتهم ربما قد ارتكب جريمته متأثرا بمرضه، وفي هذه الحالة يتم تحويله من النيابة إلى الجهة المختصة بفحص المتهمين، وهي قسم الطب النفسي الشرعي برئاسة د. عبدالمحسن الحمود، وهي وحدة مستقلة تقوم بفحص المتهم من البداية دون الاستناد إلى ملفه الطبي، الذي يعتبر بمثابة مرجع ليس إلا، وتقوم الوحدة بالفحص الكامل للمتهم لتقديم تقرير واف عن حالته وقت ارتكاب الجريمة.

وأشار الصايغ إلى أن الطب النفسي الشرعي جهة يمكن الاستناد إليها في حال الاقرار بوعي المريض من عدمه في حال ارتكاب الجريمة، ولكن في النهاية يكون القرار القضائي هو الفيصل وخاصة أن المرض النفسي بالتحديد أمر يصعب رصده أو تقييمه بشكل كامل نتيجة تغير ملامحه وأعراضه ومضاعفاته من شخص إلى آخر.

هل «الكارت الأحمر» وسيلة لهروب المتمارضين عقلياً من العدالة؟

تصور خاطئ

وقالت د. نعيمة الطاهر إن «المريض النفسي أو العقلي بالتحديد لا يعلم أنه مريض، بل في كثير من الأحيان ينكر مرضه، ويتعامل كشخص عادي، وربما يعتبر من حوله هم المرضى، ولذلك فإن أول مرحلة نحو العلاج النفسي هو اعتراف المريض بمرضه، هنا تبدأ مرحلة العلاج».

ولفتت الطاهر إلى أن عدم اعتراف المريض بمرضه، يجعله أيضا غير واعٍ أو مطمئن لوجود صلاحيات خاصة ترفع عنه العقوبة في حال مرضه، فيتحرك تحت هذا الستار مطمئنا إلى جريمته، فكل هذا تصور خاطئ، مؤكدة أن التحايل على القانون باسم الجنون أو المرض النفسي أو العقلي هي خطة دفاعية يلجأ لها بعض المحامين لإفلات موكليهم من العقاب.

من جانبه، أكد المحامي الهاملي أن المحكمة ليست ملزمة لإجابة المتهم أو دفاعه، في هذه الجوانب إلا إذا تبين لها من خلال وقائع القضية غياب المتهم عن وعيه حال ارتكاب الجريمة، أم إذا تبين العكس من وعي المتهم بجريمته ومسؤوليته عن كل ما ارتكبه من مخالفات للقيم السليمة فإنه في هذه الحالة لا يمكن للمحكمة الالتفات إلى تاريخه المرضي.

ما الاضطرابات التي تدفع لارتكاب الجريمة؟

في هذا الصدد، قالت د. نعيمة الطاهر: «يعتبر أصحاب مرض الفصام أو البارانويا من أكثر الحالات التي تقوم بارتكاب جرائم ربما تصل إلى العنف أو القتل دون وعي وتحت تأثير مرضهم، إلى جانب مرضى الاكتئاب السوداوي وهي أعنف حالات الاكتئاب وأكثرها حدة، وتعتبر المرحلة الأخيرة من مراحل الاكتئاب التي ربما تدفع المريض لإيذاء نفسه أو قتلها حيث يصل إلى مرحلة متقدمة من اليأس والإحباط واللا أمل في استمرار الحياة».

وأوضحت الطاهر أن أصحاب هذه الحالة المرضية يقدمون أيضا على إيذاء من يحبون، ولذلك فإن بعضهم قبل أن يقتل نفسه، يقوم بقتل من يحبهم أولا كالزوجة والأبناء والآباء والإخوة، مدفوعا بشعور مرضي يقوده إلى تخليصهم من حياتهم حتى لا يتعذبون من بعده، ومن بعدها يقدم على الانتحار.

وأشارت إلى النسبة الأكبر من ارتكاب الجريمة تأتي في لحظات انفعالية واضطرابات نفسية وقتية، تتفاقم في لحظة الحدث وتدفع الشخص للخروج على القانون تحت تأثير انفعالي، وليس المرض العقلي أو النفسي، ولكن يفقد الشخص السيطرة على نفسه فيندفع لارتكاب الجريمة.

النفوس الضعيفة

من جانبه، رأى د. نايف المطوع أنه رغم ارتكاب بعض المرضى النفسيين لجرائم خطيرة، فإن نسبتهم لا تزال محدودة جدا مقارنة بمرتكبي الجرائم من أصحاب النفوس الضعيفة والذين لا يعانون أمراضا نفسية، أو على الأحرى ليس لديهم ملفات بالطب النفسي أو لم يخضعوا للفحص العقلي من قبل.

وأكد المطوع أن الجرائم المرتكبة بالكويت وخاصة موجة القتل المنتشرة بالفترة الأخيرة إلى جانب الفساد والسرقة والعنف، كلها ليست لأشخاص مرضى بل أشخاص غير أسوياء يرتكبون جرائمهم بعناد وتجرد من المبادئ.

وأضاف أنه لا يمكن الحكم على جميع مرضى الفصام بأنهم مرتكبو جرائم، بالعكس إذ إن أغلبهم يتحدثون إلى أنفسهم أكثر مما يضرون الغير.

أما د. الصايغ فلفت إلى أن عدم التزام المريض بالمتابعة مع الطبيب المختص، او عدم الانتظام في الحصول على أدويته يعرضه لحدوث انتكاسة مرضية، وهو ما يدفعه للعنف أو العدائية في بعض الحالات، ولذلك ينصح في هذه الحالة بضرورة احضار الأهل للمريض إلى المستشفى في أسرع وقت، حتى لا يؤذي نفسه أو غيره، مؤكدا أن هذه النسبة تبقى قليلة ولا تعبر عن انتشار جرائم العنف بين أصحاب الأمراض النفسية.

كيف ينظر القانون لأصحاب الملفات الطبية؟

وقال الصايغ إن القانون لا يعفي بصورة مطلقة أصحاب ملفات الطب النفسي من العقاب أو المساءلة، لأن الاعتقاد بأن المراجعين بالطب النفسي يعني أنهم غير مسؤولين عن تصرفاتهم، هو اعتقاد خاطئ.

بدوره، أوضح المطوع أن ملف الطب النفسي لا يعني الأمر الخطير أو الجلل، فقد يكون أصحابه من تعرضوا في مرحلة ما في حياتهم لاكتئاب، كامرأة حامل أو تعاني اكتئاب ما بعد الولادة مثلا، وهو أمر طارئ سرعان ما يزول في أغلب الحالات.

وأضاف المطوع أن 90 - 95 في المئة من أصحاب ملفات الطب النفسي هي لحالات عارضة بسيطة تزول بزوال السبب، ولكن لعدم قدرتهم المادية على المراجعة في المستشفيات الخاصة، فتحوا ملفات بالطب النفسي الحكومي للاستمتاع بمزايا الكشف والعلاج المجاني.

الأدوية المنومة

ولفت المطوع إلى أن بعض المراجعين يلجأون للطب النفسي ليس للمراجعة ولكن فقط للحصول على دواء معين بدلا من تحمل تكلفة شرائه، وخاصة عقار Ambien المنوم الذي لا يمكن صرفه إلا من قسم الطب النفسي، ورغم أن بعض الحالات لا تعاني أمراضا نفسية، وإنما فقط تعاني أرقاً أو تحتاج إلى منوم، فهي تقوم بفتح ملف نفسي للحصول على العقار، وهو ما يكشف أن ملف الطب النفسي لا يعني شيئاً في أغلب الحالات.

من ناحيتها، أشارت د. الطاهر إلى أن قيام بعض المتهمين بفتح ملف بالطب النفسي بعد ارتكاب الجريمة وليس قبلها، هو اجراء يشوبه الكثير من اللغط، لأنه لربما يكون هذا الشخص صاحب ملف قديم ولكن تم أرشفته لعدم انتظامه في العلاج أو المراجعة، أو كانت حالته وقتية وانتهت، ولكن بعد ارتكاب الجريمة يتم إعادة فتح هذا الملف.

الواقع المجتمعي وانتشار ظاهرة العنف

في هذا الصدد، قال المطوع: «إن المرض النفسي لا يعتبر نهاية العالم ولا يعد جريمة او محفزا عليها، بل هو مجرد حالة مرضية قد تكون عارضة في أغلب الأحيان، ولكن ما يجب التصدي له وبقوة هم المجرمون الحقيقيون الذين ينتهكون الأعراف والقيم والتقاليد، وخاصة من متعاطي المخدرات الذين يقدمون على الجرائم في جرأة وغياب تام عن الوعي.

وأرجع الصايغ موجة العنف الظاهرة بالمجتمع مؤخرا إلى انتشار تعاطي المخدرات بين الشباب، والتي تؤثر على السلوك والعقل بشكل خطير، ورغم أن المخدرات تذهب العقل، وربما لا يعي الإنسان تحت تأثيرها خطورة جريمته، فإن القانون الكويتي لا يعفي المتعاطي من المسؤولية عن جرائمه وإن كان غير واعٍ.

أما الطاهر، فقالت إن أي إنسان ارتكب فعلاً أو سلوكاً مخالفاً للقانون لا يجوز النظر له على أنه مريض نفسي أو عقلي، ولكن يمكن النظر له بالتعرض لاضطرابات نفسية هي تختلف تماما عن مفهوم المرض، وفي نفس الوقت لها من القوة أن تقود الإنسان السوي أو الطبيعي للخروج على طبيعته ومبادئه وارتكاب جريمة لا تمت له بصلة ولكن هي لحظة الغضب التي حذرنا منها الله، إذ يستولي فيها الشيطان على الإنسان ويدفعه لكل شر.

وأكدت الطاهر أن المواقف الضاغطة تؤدي إلى سلوكيات وأفعال قد يندم عليها الشخص، وهي ما تؤدي إلى ما قد يقال عنه الكارت الأحمر بالطب النفسي.

عزة إبراهيم

المواقف الضاغطة تؤدي إلى سلوكيات وأفعال قد يندم عليها الشخص د. نعيمة الطاهر

المرض النفسي ليس نهاية العالم ولا يعد جريمة أو محفزاً عليها د. نايف المطوع

القانون لا يعفي بصورة مطلقة أصحاب ملفات الطب النفسي من العقاب د. عمار الصايغ

المتهم يلجأ إلى ادعاء المرض العقلي أو النفسي للتنصل من جرائمه عبدالرحمن الهاملي
back to top