الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يفز بعدُ باللعبة في بيلاروسيا!

نشر في 25-09-2020
آخر تحديث 25-09-2020 | 00:00
مع استمرار الاحتجاجات في أنحاء بيلاروسيا، بدأ الزعيم المحاصر ألكسندر لوكاشينكو يتجه شرقاً، يناضل رئيس بيلاروسيا لضمان صموده السياسي ويحاول تصوير مشاكله وكأنها جزء من صراع جيوسياسي بين موسكو والغرب، فيناشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، "شقيقه الأكبر" و"صديقه في الأوقات الصعبة"، لدعمه في وجه الضغوط المتصاعدة التي تطالبه بالتنحي من منصبه.

في صور الزعيمَين أثناء لقائهما في مدينة "سوتشي" في وقتٍ سابق من الأسبوع الماضي، بدا لوكاشينكو مرتبكاً ومتعرقاً وكان يدوّن الملاحظات بجدّية أثناء كلام بوتين أو يحاول بكل يأس أن يجذب انتباه الرئيس الروسي الذي جلس في مكانه ومدّد ساقيه بكل استرخاء وراح يُعدّل ربطة عنقه أو يطرق قدمه على الأرض في إشارة واضحة إلى شعوره بالملل.

من ناحية معينة، كان الاجتماع يهدف على ما يبدو إلى إثبات إصرار لوكاشينكو على إغلاق الباب أمام الغرب وفتحه على مصراعيه أمام روسيا.

حاول لوكاشينكو على مر عهده القائم منذ 26 عاماً أن يقلب أوروبا ضد روسيا، فحوّل بيلاروسيا إلى دولة عازلة بين الطرفين، لكن أوحى اجتماع "سوتشي" الأخير بأنه تخلى عن مقاربة شدّ الحبال هذه وبات مستعداً اليوم لمقايضة استقلال بيلاروسيا إذا كانت هذه الخطوة تضمن بقاءه في السلطة ولو ظاهرياً.

لكن رغم المشهد العام في لقاء "سوتشي"، لا يزال الوقت مبكراً لإعلان انتهاء اللعبة، من وجهة نظر أوروبا، لم تكسب موسكو بيلاروسيا بالكامل بعد.

يعرف الجميع أن لوكاشينكو مسؤول غير جدير بالثقة ويسهل أن يغيّر ولاءاته مع تبدل الظروف ولا يضمن سلوكه اليوم استمرار نهجه الراهن غداً.

عشية الانتخابات المثيرة للجدل في 9 أغسطس الماضي، اتّهم الزعيم البيلاروسي روسيا بمحاولة زعزعة استقرار بيلاروسيا بعد اعتقال 33 فرداً من المرتزقة المزعومين، لكنه يحذر اليوم من هجوم حلف الناتو ويعتبر المحتجين عملاء للغرب.

بنظر لوكاشينكو، سيكون اعتبار مصيره السياسي جزءاً من صراع جيوسياسي بين الشرق والغرب قراراً براغماتياً بامتياز، منذ أن رفض الاتحاد الأوروبي نتيجة انتخابات 9 أغسطس واعتبرها غير شرعية، أصبحت موسكو حبل النجاة الوحيد للحاكم البيلاروسي المحاصر.

حتى الآن، يحرص بوتين على مسايرة لوكاشينكو ودعمه، ولو على مضض، لأنه يفضّل التعامل مع انهياره التدريجي على إسقاطه عبر انتفاضة شعبية.

تعهدت روسيا بتقديم مساعدات عسكرية، ووضعت قوة احتياطية في حالة تأهب لاستعمالها إذا برزت الحاجة إلى التدخل، وأعلنت تنظيم تدريبات عسكرية شهرية مشتركة في غرب بيلاروسيا، كذلك، أرسلت صحافيين روس تابعين للدولة لأغراض دعائية وقدمت قرضاً بقيمة مليار ونصف دولار إلى مينسك، مما يسمح للوكاشينكو بإعادة هيكلة ديونه الروسية في معظمها.

لم تصدر أي مواقف علنية وواضحة بعد، لكن توحي جميع المعطيات بحصول مقايضة معينة قد تشمل على الأرجح خصخصة أصول بيلاروسيا أو توثيق التكامل بين البلدين، ومن المتوقع أن توسّع هذه الخطوة سطوة بوتين.

لا يساير بوتين لوكاشينكو لأنه يثق به بل لأن هذا الموقف يفيد رؤيته العالمية المثيرة للجدل، فهو ليس من النوع الذي يفوّت أي فرصة لاكتساب نفوذ إضافي في دولة مجاورة لبلده، حيث تتعدد المؤشرات التي تثبت أن موسكو تؤيد رحيل لوكاشينكو أيضاً لكن بالإيقاع الذي يناسبها.

يشكّل الكلام عن خطة لإصلاح الدستور في بيلاروسيا، بدعمٍ من الكرملين وبموافقة لوكاشينكو، جزءاً من محاولة (غير ناجحة) لاسترضاء المحتجين، لكن يثبت هذا التوجه للوكاشينكو أن الوضع لن يبقى على حاله حتى لو تجاوز الأزمة السياسية الراهنة.

لا تزال المقايضات غير مؤكدة بالنسبة إلى موسكو أيضاً، فقد يكسب الكرملين الوقت عبر إبقاء لوكاشينكو في السلطة، لكنه يجازف بهذه الطريقة بتهميش المجتمع البيلاروسي الذي يتعاطف تقليدياً مع موسكو لكنه لا يتنازل عن مطالبته بسقوط لوكاشينكو، كذلك، يصرّ المحتجون على اعتبار جميع داعمي الرئيس البيلاروسي (نتيجة التهديد أو الرشوة) على الجانب الخاطئ من التاريخ.

أعلنت زعيمة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا من منفاها في ليتوانيا قبيل لقاء "سوتشي": "يؤسفني أن تقرروا إقامة حوار مع مغتصب السلطة بدل الشعب البيلاروسي".

في غضون ذلك، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي بذل جهود كثيرة في هذا الإطار، حتى أنه يعجز عن البدء بمنافسة موسكو على مستوى الروابط الاقتصادية والتاريخية والثقافية والاجتماعية التي تربط البلدين المجاورين، كما أنه لا يملك أي سلطة على الجهاز الأمني في بيلاروسيا مقارنةً بموسكو.

يقول المحلل السياسي أرتيوم شريبمان من مينسك: "العقوبات الشخصية لا تغير الوضع على أرض الواقع، لا يهتم الأفراد المستهدفون بوجود أسمائهم على لائحة العقوبات، بل يعتبرون هذا التصنيف وسام شرف لهم، وعلى عكس النخبة الروسية، لا يملك هؤلاء أي أصول يمكن تجميدها في الاتحاد الأوروبي، قد تُشجّع الحُزَم التحفيزية، كتلك التي اقترحتها بولندا يوم الخميس الماضي، النخبة الحاكمة على التفكير بالمستقبل بعد عهد لوكاشينكو وتعرض مكافآت حين يصبح البلد بأمسّ الحاجة إلى الأموال النقدية".

لكن قد يكمن دور الاتحاد الأوروبي العاجل في تأمين الدعم الإنساني لضحايا وحشية الشرطة واللاجئين السياسيين وتقديم الدعم الأخلاقي اللازم عبر تأييد رغبة المحتجين في تقرير مصيرهم.

بافيل لاتوشكو دبلوماسي بيلاروسي ووزير ثقافة سابق أصبح اليوم من أبرز أعضاء المجلس المعارض للوكاشينكو، وقد صرّح لصحيفة "بوليتيكو" من منفاه في بولندا: "أمضى الاتحاد الأوروبي عقوداً وهو "يلقّن" المواطنين في بيلاروسيا أهمية العيش في مجتمع ديمقراطي ومنفتح، والآن بعد أن استيقظ الشعب البيلاروسي من سباته أخيراً وبدأ يرفض الحكم الاستبدادي، سيكون التخلي عنه وتركه يصارع وحده بمثابة خيانة له، يجب أن يتبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً واضحاً وغير مبهم حول الأحداث الحاصلة في بيلاروسيا تزامناً مع اقتراح مخرج للأزمة الاقتصادية المرتقبة في البلد بعد إتمام العملية الانتقالية التي تُمهّد لنشوء نظام ديمقراطي".

في الوقت نفسه، دعا أعضاء مجلس المعارضة موسكو إلى إقامة حوار حول بديل سياسي عملي، فهم يحاولون توجيه رسالة مفادها أن الانتخابات الحرّة ستؤدي على الأرجح إلى فوز رئيس يتعاطف مع روسيا ويراعي مصالحها. قد يحصل ذلك إذا لم تفسد روسيا هذه الفرصة بسبب ثقتها المفرطة بمكانتها.

تعليقاً على هذه الأحداث، تقول الصحافية والمؤرخة الفائزة بجائزة نوبل، سفيتلانا أليكسيفيتش، وهي من آخر أعضاء مجلس المعارضة غير المعتقلين في بيلاروسيا: "لطالما اعتبر سكان بيلاروسيا الروس إخوتهم، لكن إذا تمسكت روسيا بسياساتها الراهنة، فلن يبقى الوضع على حاله".

حتى الآن، تتظاهر موسكو بأنها لم تسمع هذه الرسالة ولا شك أن لوكاشينكو يتمنى أن يتابع بوتين تجاهل تلك المواقف لحماية نفسه.

● إيفا هارتوغ

back to top