المشهد الجديد ما بعد «كوفيد- 19»

نشر في 02-07-2020
آخر تحديث 02-07-2020 | 00:30
 د.عدنان أحمد شهاب الدين مع بدء العالم بالتفكير في الملامح التي سيبدو عليها "الوضع الاعتيادي الجديد" بعد جائحة "كوفيد- 19"، والدروس المستفادة منها، هنالك درس واضح، مفاده أن العلم ضروري في توجيه الاستجابات الفعّالة، وأنه يتبوأ مكانة أكثر أهمية من ذي قبل، لاسيما عند اتخاذ القرارات الحاسمة، وليست الكويت استثناءً من ذلك.

فعلى مدار الأشهر الماضية، سارعت كل دولة إلى اتخاذ إجراءات عدة للحد من تأثيرات الجائحة، وعلى الرغم من تفاوت إجراءاتها، فإنها اتفقت جميعاً على الدور الحيوي للعلم في وضع استراتيجيات وطنية، واتخاذ تدابير فعّالة حيالها، فاعتمدت دول، مثل تايوان وألمانيا، على مجتمعها العلمي في توجيه الاستراتيجية الوطنية للتعامل مع الأزمة، عبر إجراءات حازمة كالعزل، والتباعد، وإغلاق المدارس، والأعمال، والمصانع، كما استخدمت قدراتها التكنولوجية في تنفيذ الاختبارات العشوائية، وتقصّي المخالطين، فانخفضت معدلات الإصابات والوفيات، بينما تضرب السويد مثلاً على نجاح استراتيجية وطنية علمية اتخذت منحى آخر؛ تمثّل في تبني منهج الوصول التدريجي إلى "مناعة المجتمع"، وتجنب الإجراءات القاسية التي اعتمدتها الدول الأخرى.

وعلى النقيض من ذلك، فقد تعثرت دول، كإيطاليا والولايات المتحدة، رغم ما تملكه من إمكانات علمية وطبية متقدمة، لتأخرها في اعتماد استراتيجيات الاحتواء والتخفيف التي يقودها العلم، فالقيادة السياسية في الولايات المتحدة لم تعتمد بداية على نصائح فريقها الاستشاري العلمي في الاستجابة الفدرالية للجائحة، ومازالت تتردد في استخدام البيانات العلمية في اتخاذ القرار، فضلاً عن تباين القرارات على مستوى 50 ولاية، مما أدى إلى إرباك نظام الرعاية الصحية وإنهاكه، ومن ثم ارتفاع الوفيات إلى نحو 100 ألف شخص، مع توقع زيادة كبيرة بحلول أغسطس المقبل.

وفي الكويت، اتخذت الجهات الحكومية إجراءات فعّالة للتعامل مع الجائحة، اعتماداً على توصيات علمية محلية، ومن جهات ومنظمات عالمية مرموقة. وأسهمت الجهود الحكومية، وعلى رأسها وزارة الصحة، في أخذ زمام المبادرة بمكافحة تداعيات الجائحة، متسلحة بثقة ودعم كبيرين من القيادة الحكيمة لسمو أمير البلاد، وأثمر ذلك نتائج مرضية، وإشادة ودعماً كبيرين من المواطنين.

وليس بجديد على الكويت تقدير العلم والاسترشاد به؛ إذ نتج عن الاهتمام المبكر بالمؤسسات التعليمية والعلمية، منذ مطلع القرن الماضي، بناء بنية تحتية راسخة تمكن من ازدهار المجتمعات العلمية المساهمة في الأبحاث الداعمة لاتخاذ القرار، ودفع عجلة التنمية. ونستذكر هنا أن القطاع الخاص أدى دوراً حيوياً في دعم إنشاء هذه المؤسسات، لكن المؤسسات العلمية الحكومية، كجامعة الكويت ومعهد الأبحاث، قيدت استقلاليتها تدريجياً منذ تسعينيات القرن الماضي بعراقيل إدارية تحول دون تحقيق أهدافها. وأدى عدم وجود جهة عليا، يناط بها رسم استراتيجية وطنية للعلم والابتكار، وتحديد أولوياتها، والتنسيق بين مؤسسات منظومة العلم والابتكار، إلى تشتيت جهود تلك المؤسسات، والحيلولة دون إسهامها في التنمية المنشودة بفعالية توازي إمكاناتها.

على أن الطبيعة الخاصة لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وحوكمتها مباشرة من خلال مجلس إدارة يرأسه ويعيّن أعضاءه سمو أمير البلاد، وتمويلها من مساهمات شركات القطاع الخاص، جنبتها التدخلات المقيدة للأعمال العلمية، ومنحتها مرونة وسرعة في اتخاذ القرار، الأمر الذي مكّنها في مارس الماضي، على سبيل المثال، من إعادة توجيه برامجها وإطلاق (برنامج الاستجابة الطارئة) لدعم الجهود الحكومية في التصدي للتحديات التي تواجه القطاعات الحيوية بسبب الجائحة، كالتعليم، والصحة، والأعمال التجارية من خلال دعم المبادرات والمشاريع والبحوث الموجهة. ورصدت لذلك ميزانية قدرها عشرة ملايين دينار، نصفها لشراء مستلزمات وأجهزة طبية لتلبية بعض احتياجات وزارة الصحة المُلحة.

وإذا أردنا للمؤسسات العلمية في الكويت أداء دورها المأمول في مسيرة التغيير، فإنه يجب أولاً الإسراع بإقرار خطة إعادة هيكلة الجهات الحكومية التي أُعلنت لتصبح أكثر كفاءة وفعالية في تحقيق رؤية الكويت 2035. إن نجاح الحكومة في معالجة تداعيات الجائحة يمثل حافزاً لهذا الإصلاح، وحاسماً للنجاح في تطوير المنظومة الوطنية للعلوم والابتكار من خلال إزالة العراقيل التي تواجهها مؤسساتها، ومنحها استقلاليتها وتوثيق تعاونها مع المؤسسات العالمية المرموقة، مما سيسهم أيضاً في زيادة ثقة الجمهور في العلوم وتعزيز وعيه بأهميتها.

وأخيراً، تؤكد الحقائق العلمية أن هذه الجائحة لن يُقضى عليها قريباً، وسيستمر انتشارها بمعدلات تتناسب مع إجراءات كل دولة، وربما تظهر كموجات متتالية، إلى أن تضعفها الطفرات الجينية، أو نصل إلى مناعة المجتمع، أو يوجد لقاح فعّال، لكن إذا استندنا إلى البيانات العلمية لتحديد تأثير التدابير المختلفة، وكأساس لاتخاذ القرارات، فسنكون أفضل استعداداً للتعامل مع تداعياتها.

وعندما نفكر في استشراف مستقبل "ما بعد كورونا"، سنجد أن الكثير سيتغير في مختلف مناحي الحياة، والعمل، وإن بدرجة عالية من عدم اليقين بشأن السيناريو الأمثل للتوفيق بين عودة الحياة الصحية للفرد، وعودة الحياة إلى الاقتصاد. لكن العلم والابتكار سيبقيان الدليلين والمحركين الرئيسيين لقيادة رحلة التغيير للهدف المنشود، التي من أبرز ملامحها تسارع استخدام التقنيات الرقمية عن بُعد في التعليم والصحة، وفي أداء أعمال كثيرة من المنزل، وسيتطلب ذلك تآزراً أوثق بين العلوم والسياسات والمجتمع، ومن ثم لا مناص من تعزيز دور العلم ليكون دليلنا لكيفية تأمين الحياة ما بعد الجائحة.

* المدير العام لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي

back to top