ما قل ودل: إعادة النظر في الأحكام الجزائية ومعركة فولتير القضائية

نشر في 28-06-2020
آخر تحديث 28-06-2020 | 00:07
 المستشار شفيق إمام تناولت في مقالي الأحد الماضي القانون الذي أقره مجلس الأمة بجلسته المعقودة الأربعاء قبل الماضي، باعتباره إنجازاً كبيراً في مجال حقوق الإنسان، وتفعيلاً لمبدأ افتراض البراءة في الإنسان الذي نصت عليه المادة (34) من الدستور، وحماية العدالة وهي أساس الملك.

ووعدت بوضع النقاط على الحروف في مسألة سريان أحكام هذا القانون إلى الأحكام القضائية، السابقة على صدور القانون، الذي أتناوله في هذا المقال باعتباره أثراً مباشراً للقانون لا أثراً رجعياً يتطلب إعادة التصويت عليه في مجلس الأمة بتصويت مستقل بعد التصويت على القانون.

وفي هذا السياق ينص قانون المرافعات المدنية، في تحديده لسريان قوانين المرافعات من حيث الزمان بأن تسري القوانين المنشأة أو الملغاة لطرق الطعن على ما صدر من أحكام قبل العمل بالقانون.

ومن الجدير بالذكر أن القانون المذكور، وإن كان يتيح للمتهم ولزوجه وأقاربه بعد موته طلب إعادة النظر في الأحكام الصادرة بإدانة المحكوم عليه وللنائب العام أيضا حماية للعدالة، فإن التشريعات الألمانية والنمساوية والمجرية تتيح الطعن كذلك في الأحكام الصادرة بالبراءة حماية للعدالة، ولأن حماية حقوق الإنسان لا تقتصر على توفير الضمانات للمتهم في إثبات براءته، بل تشمل كذلك حقوق المجني عليهم في الجرائم التي حكم فيها ببراءة المتهم، حتى لا يفلت المجرمون من العقاب، إذا وجد دليل جديد يقطع بإدانة متهم حكم ببراءته.

ويحضرني في مناسبة إقرار مجلس الأمة قانون التماس إعادة النظر، وفي مناسبة أخرى هي عيد الأب الذي احتفل به العالم في الأسبوع الماضي قضيتان ترتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا.

القضية الأولى: المعركة القضائية لفولتير

وحدثت أمام مجلس البلاط الملكي في فرنسا عام 1764م، بالتماس إعادة النظر في الحكم الصادر من محكمة تولوز الفرنسية بتاريخ الثامن عشر من شهر نوفمبر عام 1761م والذي صدر بحرق رب الأسرة حتى الموت وهو جان كالاس والمؤبد لزوجته آن روز وابنهما بيار، وهي أسرة بروتستانتية، وكان البروتستانت يعانون اضطهاد الأغلبية الكاثوليكية التي تحكم البلاد.

وكان لدى هذه الأسرة ابن أكبر هو مارك أنطوان، الذي حصل على البكالوريا عام 1759، وقد كان موهوباً يهوى الخطابة والمسرح، وأراد الالتحاق بكلية الحقوق، إلا أنه لم يكن مسموحاً لبروتستانتي بالالتحاق بالجامعة.

وفي أثناء مغادرة الضيف منزل الأسرة، وبرفقته الابن الأصغر بيار الذي كان يحمل قنديلا لينير له الطريق، عثرا على الابن الأكبر مارك أنطوان منتحراً في دكان يملكه الأب أسفل المنزل، وتجمع المارة، وصاح المتجمهرون "لقد قتله هؤلاء الهوغنوا" ويعنون بذلك الكاثوليك، إلا أن قائد الشرطة ديفيد بودزيغ سرعان ما اتهم الأسرة وخادمتها الكاثوليكية والضيف بقتل الابن مارك أنطوان.

وقد لجأ قائد الشرطة إلى إجراء كان متبعاً في هذا الوقت هو الإعلان في كل الكنائس، وعلى مدى ثلاثة أسابيع بأن أنطوان كان ينوي ترك البروتستانتية واعتناق المذهب الكاثوليكي، داعيا كل من لديه معلومات بأن يتقدم بها، إلا أن أحداً لم يتقدم للإدلاء بأي معلومة تؤيد مزاعم قائد الشرطة، عدا أحد الشهود الذي نفى ذلك وكانت له علاقة بالابن القتيل، إذ قرر في شهادته أن أنطوان كان ينوي الدخول في الالكيروس البروتستانتي والسفر إلى جنيف لتحقيق هذه الغاية، بما ينفي عزمه على ترك المذهب البروتستانتي الذي يدين به هو وأسلافه، إلا أن المحقق لم يلتفت إلى هذه الشهادة.

وقد جرى جناز كاثوليكي للابن رافقه أربعون كاهناً حملوا النعش على أكتافهم، كما رافق النعش لافتة كتب عليها "الردة عن الهرطقة: إمضاء مارك أنطوان كالاس"، وحضر المأتم ممثلون عن كل السلطات الرسمية، وطلب المدعي العام الملكي ربكيه دي بوتريبوا إلى المحكمة الإعدام للأب والأم والأخ حرقاً حتى الموت والمؤبد للضيف، وخمس سنوات للخادمة.

وعدل الحكم في الاستئناف لإعدام الأب، والمؤبد للأم والأخ، وقد برئ الضيف والخادمة الكاثوليكية، وأعدم جان كالاس بعد تعذيب لا قبل لإنسان بتحمله، سواء قبل صدور الحكم أو أثناء تنفيذه، وصودرت أموال الأسرة، ونفذ الحكم بالسجن المؤبد على الزوجة والابن.

ولكن القصة لم تنتهِ فقد شاهد تاجر من مرسيليا هذه المشاهد البشعة، فهاله ما رأى وبعد أن تيقن أن في الأمر خطأ عدلياً، وأنها جريمة شائنة في حق الإنسانية، يحركها تعصب ذميم، سافر إلى فولتير، وكانت تربطه به صداقة، فجمع فولتير حوله عدداً من رجال القانون، تولوا جميعاً دراسة ملف الدعوى، وتبين له أن هناك أخطاء إجرائية كثيرة شابت هذه المحاكمة من لحظة القبض على المتهمين، كان ارتكابها مدفوعاً بالإصرار على إدانة الأسرة البروتستانتية.

وكتب فولتير وهو يخوض هذه المعركة ، إلى كل من له صلة بهم في أوروبا من ملوك وأمراء ووجهاء وعلماء، كتب إليهم يستصرخ ضمائرهم، ويحثهم على إسماع صوتهم، فقد كانت هذه القضية بالنسبة إليه رمزاً، وأنها تلطخ جبين العدالة في فرنسا، وبعد ثلاث سنوات من إرسال جان كالاس إلى المقصلة صدر الحكم من مجلس الملك برد اعتبار المسكين وتبرئة جميع المحكومين، كما رأى الملك تعويض أسرة كالاس من أمواله الخاصة عما لقيه الأب والابن الأصغر من تعذيب ولاقته الأسرة من قهر وحرمان.

القضية الثانية: في عيد الأب

فان جان كالاس لابد أن نتذكره في عيد الأب لأنه كان أحد الآباء العظماء عندما عرض نفسه لاتهام ظالم بقتل ابنه، احتراما لذكرى ابنه، الذي انتحر بسبب حرمانه من الالتحاق بالجامعة، لأن الانتحار كان جرماً شائناً، واحتراماً لجثة ابنه حيث كان يعاقب عليه المنتحر بسجل جثته في الشوارع، ليبصق عليها المارة كما رفض أثناء تنفيذ الحكم رغم التعذيب الذي لاقاه، الاعتراف بقتل ابنه، ليريح نفسه من هذا العذاب وهو يعلم أن نهايته المقصلة بعد هذا العذاب، فقد كان يخشى ما ينتظر ابنه وزوجته من تعذيب بسبب هذا الاعتراف.

وجرى تعذيب الأب عند تنفيذ الحكم لإجباره على الاعتراف، وذلك بشد الذراعين باتجاهين معاكسين، ويزداد الشد كلما أصر الأب على النفي، وسيق الأب إلى الكنيسة حيث المقصلة، فضربه الجلاد بضربات من عصا حديدية، كسرت أطرافه الأربعة، ثم ربط عنقه لمدة ساعتين ليختنق، ثم أجهز عليه الجلاد ورمى جثته في النار وسط فرح وهرج جمهور المتعطشين للدماء، ينفثون حقدهم عليه.

وكان آخر ما نطق به الأب: "لقد قلت الحقيقة. هل تعتقد أن من الممكن أن يقدم أب على قتل ابنه؟ سأموت بريئاً، ولست آسفاً على حياة ستليها سعادة أبدية، كما أرثى لحال زوجتي وابني وخادمتي، وأرثى خاصة لحال المسكين السيد لافايس، الذي قاده سوء طالعه لهذا المأزق".

وبعد خمس وعشرين سنة انفجرت الثورة الفرنسية، فقد كان جان كالاس رمزاً لهذه الحقبة، كما أصبح جون كلويد رمزا في كل أنحاء العالم، للمعذبين في الأرض.

back to top