ما قل ودل: إعادة النظر في الأحكام الجزائية... دون أثر الرجعية (1-2)

نشر في 21-06-2020
آخر تحديث 21-06-2020 | 00:10
القانون الذي أجازه مجلس الأمة في إنجازه الكبير في مجال حقوق الإنسان، وحماية العدالة، فعّل أحكام المادة 34 من الدستور فيما نصت عليه من أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع".
 المستشار شفيق إمام أعتقد أن إنجازاً كبيراً حققه مجلس الأمة في مجال حقوق الإنسان وحماية العدالة في جلسته المعقودة يوم الأربعاء الماضي عندما أقر تعديلا تشريعيا لقانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الصادر بالمرسوم بقانون رقم 17 لسنة 1960، والذي طال انتظاره، والذي يجيز إعادة النظر في الأحكام الجزائية الصادرة بالعقوبة في مواد الجنايات والجنح، وذلك في الحالات التي حددها القانون الجديد لالتماس إعادة النظر في هذه الأحكام، كظهور القتيل حيا، أو إدانة متهم عن الواقعة ذاتها بحكم لاحق، أو ثبوت شهادة زور أو تزوير ورقة بني على أيهما الحكم، أو ابتناء الحكم على مسألة مدنية أو مسألة أحوال شخصية، صدر حكم في أيهما بما يخالف ما أثبته الحكم بإدانة المتهم، بما يؤثر على النتيجة التي انتهى إليها الحكم، أو ظهور وقائع أو أوراق لم تكن تحت نظر المحكمة بما يؤثر على سلامة الحكم.

لا قداسة لأحكام القضاء

ويتخطى القانون الذي أقره المجلس باستحداث طريق طعن جديد هو التماس إعادة النظر في الأحكام القضائية التي حازت قوة الأمر المقضي فيه، وأن الحكم عنوان الحقيقة، متى استنفد طرق الطعن فيه.

قال الرسول عليه الصلاة والسلام "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقضي له بقطعة من النار، فلا يأخذها". صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

هذا هو سيد الخلق الذي لا ينطق عن الهوى عندما يشرع للناس أمور دينهم ودنياهم، يقول عن نفسه إنه بشر يخطئ ويصيب، فلا يجوز أن نخلع على أحكام يصدرها قضاة من البشر عصمة لم يعصم النبيّ نفسه منها أصابت أو أخطأت، في الوقت الذي يعتبر فيه الدستور علانية الجلسات من الضمانات الأساسية للمحاكمة، وهي ضمانة لم تُشرّع عبثاً، وإنما شرعت لإخضاع الأحكام القضائية لرقابة الأمة، وحتى في الأحوال التي تقرر فيها المحاكم عقد جلساتها سرية مراعاة للنظام العام أو للآداب العامة، فإن النطق بالحكم يكون في جلسة علنية، ليخضع الحكم بدوره لرقابة الأمة، لأن السلطة القضائية شأنها شأن أي سلطة أخرى لا يجوز أن تكون أعمالها بمنجاة من رقابة الأمة مصدر السلطات جميعا، فتمخضت رقابة مجلس الأمة عن إقرار التشريع سالف الذكر، وهو طريق طعن في الأحكام المدنية منصوص عليه في قانون المرافعات المدنية والتجارية.

حرية القاضي الواسعة

نعم القضاة يحكمون بنصوص القانون، ولكن القانون قد منح القاضي سلطات واسعة في استخلاص الوقائع، وفي تكوين عقيدته من أي دليل يرتاح إليه، ومن أي مصدر يراه سواء من التحقيق الذي يجريه بنفسه في الجلسة، أو من تحقيقات النيابة العامة، أو من محاضر التحريات، أو محاضر ضبط الواقعة وجمع الاستدلالات، وله الحرية المطلقة في ترجيح دليل على آخر، وتكوين اقتناعه من تلك المحاضر والتحقيقات حسبما يوحيه إليه ضميره.

والواقع أن الاتهام الجزائي يطرح خصومة بين طرفين غير متساويين هما النيابة العامة أو إدارة التحقيقات، حسب الأحوال، بمواردهما وسلطاتهما التي تتركز فيهما عناصر قوتها، والطرف الآخر المتهم الماثل أمامهما، وهو دونهما في الوسائل التي يملكها لدحض الاتهام الموجه إليه، بإعطائه فرصة ثانية، في حال ظهور الوقائع سالفة الذكر أو ثبوتها بأحكام قضائية لاحقه، بما يزعزع الإدانة التي ثبتت في حق المتهم، ويلقي ظلالا من الشك على المحاكمة القانونية التي خاضها دفاعا عن براءته، وفي هذا السياق يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، و"أن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"

حماية العدالة

ذلك أن مكافحة الجريمة، وإن كان مطلبا للدول جميعا على تباين اتجاهاتها ومذاهبها، إلا أن سعيها لتحقيق هذا الغرض، يجب أن يكون متوازنا مع حماية العدالة، بل إن حماية العدالة لها الأولوية على ما عداها، وقد نص الدستور في المادة (162) على "أن العدل أساس الملك".

وحماية العدالة هي رسالة القضاء الأولى، يقول المولى عز وجل: "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، ويقول المولى عز وجل "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"، والعدل هو بعض ما أنزل الله إلينا في كتابه الكريم، بل هو أسمى ما أنزله.

فالقانون الذي أجازه مجلس الأمة في إنجازه الكبير في مجال حقوق الإنسان، وحماية العدالة، وهما وجهان لعملة واحدة، قد فعل أحكام المادة 34 من الدستور فيما نصت عليه من أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع".

وإن كل اتهام يناقض افتراض البراءة، باعتباره تعبيراً عن الفطرة التي جبل الإنسان عليها وصار متصلا بها، فلا تنقضها إرادة ما أيا كان وزنها، إنما ينحيها حكم قضائي نهائي صار باتاً في شأن نسبتها إلى المسؤول عنها، فاعلا كان أو شريكا،

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة".

ويقول الإمام أبو مسلم الخولاني: "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعاً، وجرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

وللحديث بقية في مدى رجعية هذا القانون دون موافقة المجلس الصريحة من خلال التصويت على ارتداد آثاره إلى الماضي في مقالي القادم بإذن الله، إن كان في العمر بقية.

السلطة القضائية شأنها شأن أي سلطة أخرى لا يجوز أن تكون أعمالها بمنجاة من رقابة الأمة

علانية الجلسات من الضمانات الأساسية للمحاكمة وهي ضمانة لم تُشرّع عبثاً إنما شرعت لإخضاع الأحكام القضائية لرقابة الأمة
back to top