لا شيء يبقى غير الذكريات

نشر في 12-04-2020
آخر تحديث 12-04-2020 | 00:18
 حسن العيسى لا يترك الموت غير أسى الذكرى ولوعتها، موجات هادئة من الذكريات عن الذين رحلوا من عالمنا، تحفر في وجدانك ابتسامة في لحظة، ولوعة حزن في لحظات أخرى، أنزل من البيت متأهباً للذهاب إلى مدرسة السالمية، قد أتأخر عن الصف الثاني الابتدائي، فشملان يفترض أن يرافقني في طريق طيني وموحل من البيت حتى المدرسة (الدائرة العامة للتحقيقات الآن)، شقيقي شملان، كانت له أولوياته الأهم قبل ضرب جرس المدرسة، فهو كل صباح يدخل "محكر" الحمام، ننتظر خروج الحمام، ثم التصفيق والتصفير ورأسه تراجع بزاوية حادة للخلف يدفع بالحمام "القلاليب" على الارتفاع عالياً، كم "قلبه" واحدة، اثنتين، ثلاثاً،،، تقلبات بهلوانية كانت متعة شملان تلك الأيام... فتحت كفنه بعد غسله ناحية الرأس، كان مغمض العينين، لا يوجد حمام يتابع حركاته، والكفن يقيد، الموت صامت أبدي فرض سلطانه على الجسد.

الأيام تمضي، يقولون إن الزمن هكذا يمضي من لحظة إلى لحظة تتلوها ثانية، ويقول فيلسوف يوناني إن الزمن كالنهر لا تستحم به مرتين، غيرهم يقول الزمن مطلق ثابت، لا يمضي، هو ليس نهراً، هو "آنات" (جمع الآن)، نحن نغير المكان في كون بلا نهايات، وحياتنا كلها صور رسمت على هذا الكون، كل الموجود هو لحظة الحاضر، الماضي ذكرى، صورة رسمت نفسها في الوجدان قد ننساها، وقد تحضر نفسها أو نستحضرها، تختلط بالخيال، وتتوه الذكرى مع خيالاتنا عن الماضي الذي نتوق له ونأسى على فقدانه، كنا أطفالاً، كنا شباباً، كنا وكنا نعيد الكلمة مرات ومرات، لا نفكر في الموت، لا نكترث له، الآن أضحينا كهولاً، احتمالات النهاية أضحت قريبة، يتزايد قلق الوجود من نهاية محتومة، قد يقفز عزرائيل إليك في لحظة مرض سرطاني يعذبك كثيراً، وهذا المؤلم في نهاية حدوتة الدنيا، وقد تكون جلطة في القلب أو الرأس وأنت نائم، بلا ألم ولا عذاب للجسد المتهالك من طول العمر... أنت هنا أسعد حظاً بنهاية حاسمة، مثل الحادث حين يكون كالسيف يبتر حياتك دون إنذار... شملان تأذى كثيراً في الشهرين الأخيرين من رحلة حياته، بعد انتشار المرض اللعين، وجهه بدا بعد المغيسل مرتاحاً هادئاً يغط في نوم عميق، عميق جداً ليس له قرار، وليس من بعده فجر.

سعد الله ونوس وصف حاله في مرضه "كان العالم حياً صلباً لكنه كان يتسرب مني متنائياً ولا مبالياً... إذن لقد انتهت الحدوتة".

ذهب شملان لبوسطن، درس وأكمل الدكتوراه هناك، بعد الانتهاء من سان هوزيه في الدراسة الجامعية، عاد للكويت، درّس في جامعة الكويت، حكايات كثيرة تثير الابتسام في فترة زمن، أو تثير السخط منه أو عليه من طلابه وطالباته، لقاءات تلفزيونية ينسى شملان نفسه فيها وبعفوية يطلق أي خاطرة تمر على باله، وتعقبها قضية وشكوى جزائية عليه، وأتحمل بدوري متابعتها.

عاش شملان، درس، أجرى لقاءات بالتلفزيون ثم مات، وانتهت الحكاية... غير الذكرى لا يبقى شيء.

back to top