الأمان... الذي فقدناه!

نشر في 09-04-2020
آخر تحديث 09-04-2020 | 00:10
لقد توالت الحروب في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكادت الثالثة أن تشتعل، ومن المستبعد للأسف الشديد أن نستوعب كما ينبغي نتائج كارثة كورونا.
 خليل علي حيدر أحيت كارثة وباء كورونا الحالية على الأرجح، في أوساط وأذهان الجماعات الإرهابية القوة الهائلة للسلاح الجرثومي في تهديد وتخريب المجتمعات الحديثة المراد الانتقام منها، ونبهتهم إلى قوة دماره، وستكون داخل هذه الجماعات منذ الآن وفي المستقبل أجنحة انتقامية وجماعات متشددة، تحاول تجربة هذا السلاح دون بقية أسلحة الدمار الشامل فور الحصول عليه، ولأسباب عديدة.

فالكثير من الإرهابيين في الجماعات المقاتلة من خريجي العلوم الطبية والكيميائية والهندسية، كما أن السلاح الجرثومي سلاح لا يُرى سهل التهريب والتجريب، وحمله واستخدامه غير عسير حتى في أشكاله الأولية، كما هي الحال مثلا "القنابل القذرة" أي القنابل الذرية أو الكيميائية البدائية التي تلوث المياه أو تفسد الجو وتدمر الحقول وتخلق وضعا خطيراً، كما أن السلاح الجرثومي، كما نرى اليوم في دول العالم، يقتل الناس ويشل المجتمعات ويتلف الاقتصاد ويهدد الحياة والحضارة، أي أنه كسلاح، "يختصر" متطلبات التدمير ويجمعها في ضربة واحدة.

وإذا كان ذلك سهلاً وممكناً، فقد تعيد أطراف مثل قيادة كوريا الشمالية، ومتشددي الحرس الثوري في إيران وغيرها، حساباتها ولا تضع كل البيض في سلة "الملف النووي" ضد أميركا وضد إسرائيل، التي ترفع شعارات الموت ضدهما، وبخاصة إن كان من الممكن تطوير السلاح أو "تدبير" قنابل جرثومية فيروسية، توقع بالعدو أكبر الخسائر أو تصلح لتهديده، وتخلق داخل صفوفه ما نرى اليوم من رعب واضطراب وتخبط، دون أن تضطر قوى الإرهاب والتخريب إلى تحميل مسؤولية الهجوم والكارثة، ودون أن يعرف أحد من الذي نشر الفيروس وكيف!

ساد الأوساط العسكرية والسياسية في العالم قبل أعوام قلق شديد إثر تفكك الاتحاد السوفياتي، على مصير مخزونه السري من القنابل الذرية والكيماوية والجرثومية، وبخاصة إن كانت مخازنها في بعض جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية أو مناطق البلقان الغارقة بدورها في ألوان التعصب القومي والديني، وقد سمعنا الكثير عن مساعدة الولايات المتحدة آنذاك للروس في تفكيك الصواريخ والرؤوس النووية وما شابه، ولم تتسلط أضواء مماثلة على الأسلحة الجرثومية وغير النووية، أو الأسلحة النووية "المحددة التدمير" النيترونية، التي قيل إنها تقتل البشر ولا تمس المباني والجسور وغيرها، ولا أدري إن كانت بقية الموجودات الحية والحيوانات تبقى "حية" بعد ذلك وكذا المياه والأشجار! وقد تحدثت الصحف الغربية بعض الوقت بعد 1974 عن القنبلة النيترونية، وقيل في أوج الحرب الباردة والدفاع عن أوروبا الغربية، إن الغرب قد يلجأ لهذا السلاح، إن زحفت عليه قوات "حلف وارسو".

لم تكن آثار القنبلة الجرثومية والفيروسية واضحة يومذاك إلا في المختبرات، وحظي السلاح النووي، وبخاصة بعد الحديث عن إنتاج أحجام صغيرة منه، باهتمام العالم. واليوم وقد رأينا "انفلات" فيروس كورونا وانتشاره بهذه السرعة، وهذا الاتساع لأسباب سياسية في الصين وإيران، وتسببه في شلل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، باتت الأمور مختلفة.

فقد قلب الخطر الجرثومي كل الموازين المعتادة في الدول المتقدمة والعالم الثالث، وغدت سنة 2020 من نقاط التحول في التاريخ على صعيد البشرية، وكما صرح مفكر استراتيجي بارز من وزن وزير الخارجية الأميركية الأسبق "هنري كيسنجر"، فجائحة كورونا ستغير النظام العالمي إلى الأبد كما يؤكد، وتداعياتها ستستمر لأجيال عدة، كما قال "إن الأضرار التي ألحقها تفشي الفيروس المستجد بالصحة قد تكون آنية، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عدة".

(القبس 5/ 4/ 2020 )

نحن لا نعرف إلا عبر الصور والأفلام الوثائقية ما هي القنبلة الذرية، وبخاصة تلك التي ألقيت على مدينتين في اليابان عام 1945، قبل أكثر من 75 عاما، أما اجتياح فيروس كورونا اليوم لمدن الصين وإيران وإيطاليا وإسبانيا ونيويورك وغيرها، فيجسد لنا بالصوت والصورة والمعايشة، كيف ستكون أحوال العالم والمستشفيات وحتى المقابر، إذا انطلقت فيروسات أخرى أشد فتكاً من عقالها ذات يوم، ربما تبدأ في عمل إرهابي "جهادي" محدود، كالذي تشجعه علناً وإعلاما بعض الدول والأحزاب، ضد أوروبا وأميركا وإسرائيل وروسيا.

لقد أنضج "كورونا" العالم سياسياً واستراتيجيا ربما بحجم ما فعلت الحربان العالمية الأولى والثانية، وذكرنا مرة أخرى وبقسوة بهشاشة أوضاعنا الدولية المفككة والمضطربة، وبعدم قدرة الكثير من دول العالم حتى البالغة التقدم، والثراء منها، على تحمل أعباء انتشار الفيروسات!

وقد نادى البعض بضرورة إيقاف الحروب في مختلف المناطق، وتقبل الحلول الواقعية وعدم الاندفاع خلف الشعارات، لكي نتفرغ لما بات يهدد وجودنا وكياننا، مهما كان جنسنا وقوميتنا وديننا ومستوانا المعيشي! هناك أخطار تهدد البحار والغلاف الجوي والمدن والبيئة والحيوانات والنباتات والحرث والنسل!

نعود إلى مقال المفكر "كيسنجر" الذي حض الإدارة الأميركية على ثلاثة أشياء: تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية بتطوير البحث العلمي، معالجة ما لحق العالم من أضرار اقتصادية من جراء تفشي الوباء، وأخيرا حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، أي حماية الحريات السياسية والاستقرار الدولي والسلام العالمي، غير أن هذه المطالب ينبغي أن تكون مهام العالم كله والأمم المتحدة لا الولايات المتحدة وحدها أو المنظمات الدولية، فلا تستطيع أي دولة أن تتصدى للتحديات القادمة مهما كانت كبيرة كالمجموعة الأوروبية أو الصين، أو دولة عظمى كالولايات المتحدة أو غامضة القرار.. مثل الاتحاد الروسي!

لقد توالت الحروب في العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكادت الثالثة أن تشتعل، ومن المستبعد للأسف الشديد أن نستوعب كما ينبغي نتائج كارثة كورونا.

الخطر الجرثومي قلب كل الموازين المعتادة في الدول المتقدمة والعالم الثالث وغدت سنة 2020 من نقاط التحول في التاريخ
back to top