إيران... التهدئة أم التغيير؟

نشر في 23-01-2020
آخر تحديث 23-01-2020 | 00:10
لا أحد يريد الشر بإيران، ومعظم الخليجيين والعرب والعالم الإسلامي يريدون إيران موحدة قوية مسالمة وصديقة، يريدون باختصار إيران أخرى غير ما نرى اليوم، منذ أربعين سنة!
 خليل علي حيدر قد تتجاوز إيران مؤقتا وبمعجزة وبما تمتلك من أجهزة أمن وأموال نتائج "ثورة البنزين" والغلاء وإسقاط الطائرة الأوكرانية "سهواً"، والعديد من مشاكلها المتراكمة الأخرى، ولكنها على الأرجح ستجابه المزيد مما يتحدى نظامها السياسي والعقائدي المغلق والمغامر، مما يحتم إعادة النظر في نظام وأفكار "ثورة 1979 الإسلامية"، الذي جمد عند ذلك التاريخ وعصر الثورات الأيديولوجية، ولم يعد صالحا لشعب ودولة بحجم إيران ومكانتها في القرن الحادي والعشرين.

فمن أبرز مشاكل الأنظمة غير الديمقراطية، ذات الإعلام الموجه المقيد، مثل جمهورية إيران الإسلامية، كما برهنت حوادث السنوات والعقود الأخيرة في أكثر من دولة ونظام، أن الدول المماثلة لها تصل بعد مرحلة من حياتها السياسية إلى مفترق طرق: إما أن تختار الانفتاح والتغيير وبعض أشكال الديمقراطية والتعددية البرلمانية، أو التعرض من الداخل لاضطرابات متوالية قد تفكك النظام وتقضي عليه، كما رأينا في التجربة السوفياتية ودول أوروبا الشرقية وغيرها.

ومن المؤسف أن الأنظمة المؤدلجة المبنية على عقيدة وأيديولوجية واحدة كثيرا ما تجد نفسها غير قادرة أو حتى راغبة في مصارحة نفسها واختيار ما يصلح لمستقبلها بعد أن وصلت اليوم إلى هذا الوضع المحاصر المأزوم.

ولا جدال في أن إيران كما يشعر حتى خصومها في المنطقة الخليجية ودول الشرق الأوسط، دولة أساسية بالغة الأهمية، ولكنها للأسف لا تزال غير مدركة لأزمتها العميقة، ولا تزال تراهن على السلاح والصواريخ والقوة الذرية والتعبئة السياسية وتحدي المجتمع الدولي.

لقد تفكك الاتحاد السوفياتي أمام أعين إيران، واختفى ذلك العملاق السياسي العسكري في عام أو عامين، وطلب الروس من الأميركيين مساعدتهم في تفكيك الصواريخ والتخلص من الرؤوس النووية!

وكانت روسيا أقوى أعداء إيران في القرن التاسع عشر والعشرين، وكان "آية الله الخميني" نفسه يصف الاتحاد السوفياتي بأنه "سجن كبير"، وهو الشعور نفسه الذي يشعر به معارضو النظام الإيراني اليوم في بلادهم، وبخاصة إن كانوا من دين أو مذهب مخالف للمذهب السائد، أو حتى كانوا من فقهاء ومجتهدي الشيعة، والمعارضين لنظام ولاية الفقيه، أو المنتقدين لسياسة فرض دكتاتورية رجال الدين الشيعة الاثني عشرية على المجتمع الإيراني بالقوة وبالحديد والنار! بل ومما يلفت النظر أن الإيرانيين لا يتمتعون حتى بنصف أو ربع حرية جيرانهم العراقيين السياسية والصحافية والحزبية!

ففي العراق صحافة حرة متنوعة تعبر عن كل الاتجاهات، ومحطات تلفاز سنية شيعية كردية تركمانية من كل لون، والشباب يقولون ما يشاؤون، والمرأة غير مجبرة على ارتداء الحجاب، وفي إيران ربما حتى غير المسلمة مجبرة على ارتداء الحجاب! وللأكراد والتركمان والمسيحيين في العراق صوت مسموع وحرية سياسية واسعة لا أثر لهما لدى أكراد إيران، ولا في أوساط البلوش أو عرب الأهواز أو المسيحيين، فيما يتعرض البهائيون الإيرانيون فيها، وبخاصة منذ قيام الثورة عام 1979، لاضطهاد وتمييز فاحش، دون سبب واضح، أو جرائم موثقة سوى العداء الموروث بين رجال الدين الإيرانيين وأتباع الدين البهائي.

ويتمتع أهل السنّة في العراق رغم كل شيء، وبخاصة بالمقارنة بأحوال أهل السنّة في إيران، بحريات مذهبية واسعة، والأبرز من ذلك وجود سياسي واقتصادي وثقافي في الحياة العامة، ومشاركة في إدارة البلاد والجيش والسلك الدبلوماسي والكثير الكثير مما لا يتوافر لأهل السنّة الإيرانيين أبدا. كما تتميز الطبقة الوسطى العراقية والشرائح المثقفة وحتى القبائل والعشائر من المنتمين إلى المذهبين بتشجيع التقارب ونبذ الطائفية بعكس "استراتيجية الانفراد المذهبي" الإيرانية.

لا تستطيع إيران ولا ينبغي أن تستمر اليوم على ما كانت عليه قبل أربعين عاما ونيف، عندما بدأت ثورتها عامي 1978-1979، وما يجعلنا نقترح قيام القيادة الإيرانية بالإصلاح والانفتاح إنما هي أهمية إيران وثقلها الاستراتيجي، ولا يتمنى الكثيرون في الدول المجاورة للجمهورية سوى الاستقرار والاعتدال والتفاهم مع أول وسابع جار! وأن تكف عن التدخل في شؤون الدول والتظاهر بالدفاع عن الشيعة حتى الذين لم يشتكوا إليها الحال، ولا طلبوا السلاح أو المال!

ويعيش أغلب شيعة الخليج مثلا في الكويت والسعودية والإمارات والبحرين حياة أفضل وأكثر رفاهية وحرية وغنى بما لا يقارن بشيعة إيران، وتتمتع حسينياتهم وقياداتهم ومراجعهم بحريات لا تتوافر لأي مرجع ديني في إيران، أما شيعة لبنان فقد عانوا ولا يزالون من الانقسامات والصراعات بسبب تسلط "حزب الله" على مصير لبنان وحرياته، وبخاصة على حياة الشيعة بعد أن بات الحزب دولة أقوى بكثير من الدولة، واستخدام الحزب للشيعة أداة في صراعه مع إسرائيل، وإظهارهم مجرد أتباع لإيران لا مواطنين لبنانيين منذ قرون طويلة!

لا أخاطب، في طلب الانفتاح والاعتدال هنا، القيادة الإيرانية أو ساستها، بل أحاول إقناع أصدقاء إيران والمتعاطفين مع سياساتها ومع فكرة ولاية الفقيه المدمرة للولاء الوطني، بمخاطر هذه السياسات على مصالح إيران، ومهما تكن إيران قوية فلن تصمد أمام الضغوط الأميركية السياسية والمالية والعسكرية، وقد يراهن بعض هؤلاء على خصوم ومنافسي الولايات المتحدة، ولكن لن تقف روسيا أو أوروبا أو الصين مع إيران إلا مجاملة وظاهريا، فأميركا وأسواقها وصادراتها ووارداتها أكثر أهمية لهذه الدول من إيران التي لا تملك إلا النفط، الموجود بكثرة في كل مكان، كما أن مصالح الاتحاد الروسي ودولة الصين والاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة أعرض بكثير، كثير جداً، من مصالحها مع دولة لن يتجاوز عدد سكانها مئة مليون حتى بعد عشر سنوات، ودخل وطني يقل عن 410 آلاف مليون دولار أمام ميزانية أميركية "بالترليونات". إذ كان الناتج القومي الأميركي عام 2016 نحو 19 تريليون دولار، فتجارة هذه الدول والكيانات الكبرى مع أميركا كذلك بآلاف الملايين من الدولارات، ولو هددت أميركا أيا منها بالمقاطعة أو التقليص التجاري في أي صنف أو مجال لكانت علاقات هذه الدولة مع إيران أولى الضحايا وأول ما يجري التخلص منه! نحن ندعو إيران الإسلامية إلى مباشرة الانفتاح والإصلاح وتغيير سياساتها، ولسنا ساذجين، فهي بالطبع لن تفعل ولن تنصت للأسف، والذي يخيف كل من يخشى على مستقبل منطقتنا الخليجية والعالميين العربي والإسلامي إنما هو حجم الانفجار وفقدان التوازن والفوضى الذي قد يرافق أي تغيير عنيف، وما يعقب التغيير من عنف وتفكك، فالأكراد مثلا لن يقنعهم شيء أقل من منجزات أكراد العراق وتركيا، وأهل السنّة في الجنوب قد تجتذبهم المنطقة الخليجية، وهكذا عرب إيران وأتراكها وغيرهم.

لا أحد يريد الشر بإيران، ومعظم الخليجيين والعرب والعالم الإسلامي يريدون إيران موحدة قوية مسالمة وصديقة، يريدون باختصار إيران أخرى غير ما نرى اليوم، منذ أربعين سنة!

الإيرانيون لا يتمتعون حتى بنصف أو ربع حرية جيرانهم العراقيين السياسية والصحافية والحزبية
back to top