سُنّة إيران ... و«الحسينيات»

نشر في 05-12-2019
آخر تحديث 05-12-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر هل كان لأهل السُّنّة في إيران دور أساسي في وجود واستمرار «الحسينية»، أهم مؤسسة مذهبية شيعية اليوم؟ وهل صحيح أن أحد رجال الدين، من أهل السُّنّة الأحناف في إيران، هو الذي نظم أشعار المراثي الحزينة عن مأساة كربلاء، وعن مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وما جرى لأهل بيته في العراق والشام، والتي لاتزال تتلى على منابر الحسينيات؟

«الحسينية»، كما يعرف أغلبنا، مؤسسة دينية يستذكر فيها المسلمون الشيعة خلال شهر المحرم من كل عام مأساة كربلاء التي وقعت عام 61هـ- 680م، ويتم هذا الاحتفاء الديني بقراءة أشعار ومراثٍ بلغات عدة حسب الدولة واللغة السائدة، وبالفصحى والعامية، في العالم العربي كالكويت والدول الخليجية والعراق ولبنان، إلى جانب إيران وأفغانستان وباكستان وغيرها، وأغلب الأشعار عربية أو فارسية أو باللهجة العراقية، ولم أسمع قصائد ومراثي بلهجات أخرى كاللبنانية مثلا!

هذا ما هو معروف للجميع، ولكن ما قد يكون موضع الاندهاش أن أصل الأشعار والمراثي التي قامت عليها الحسينيات كانت من نظم رجل دين وفقيه إيراني بارز من خراسان بإيران، اختلف المؤرخون فيما إذا كان من الشيعة أم السُنّة! اسم ناظم هذه الأشعار والمراثي الفارسية «كمال الدين حسين بن علي سبزواري» المشهور باسم «مولانا حسين واعظ كاشفي».

فمن كان «الشيخ كاشفي»؟ وأين ومتى عاش؟ وماذا يقول من يعتبره من الشيعة؟ وماذا يقول من يرى أنه في الواقع كان من فقهاء وخطباء الأحناف السُنّة، ومن المتعاطفين بشدة مع مأساة كربلاء وضحاياها في الوقت نفسه؟

ولد «كاشفي» في مدينة «سبزوار» في إقليم خراسان شمال شرقي إيران عام 1436م، وتوفي عام 1504م في مدينة «هرات» بأفغانستان الحالية ودفن فيها، وله في «سبزوار» نصب تذكاري، وفي «هرات» قبر معروف.

كان الفقيه «كاشفي»، كما تصفه المراجع، واسع المعارف، ويسمى بالفارسية بكلمة تعني من يعرف كل شيء أو «هَمَة جيزدان»، كما كان مهتماً بالعلوم الفلكية والرياضيات، ومفسراً للقرآن الكريم، ومن أبرز وعاظ «العصر التيموري» في إيران، وهو العصر الذي تلا العصر المغولي وانتهى بقيام الدولة الصفوية 1502م.

غير أن شُهرة «كاشفي» بين رجال عصره تعود إلى الملحمة الشعرية التي وضعها بعنوان «روضة الشهداء»، عن «كربلاء» ومقتل الإمام «الحسين بن علي بن أبي طالب» وصحبه، وقد بادرت «الدولة الصفوية» إلى تبني الكتاب والقصائد واستخدمتها في نشر وترسيخ التشيع في إيران مع قيام الدولة في مطلع القرن السادس عشر الميلادي (1722-1501).

يقول «د. حسين مجيب المصري» أحد أبرز الباحثين العرب في الثقافة الفارسية عن كتاب «روضة الشهداء» إنه «كتاب لحسين واعظ الكاشفي من أهل القرن العاشر الهجري، أُلّف فيما حاق بأهل البيت من محن، وتتلى منه صفحات في إحياء الشيعة ذكرى مصرع الحسين، رضي الله عنه، في عاشوراء من كل عام». (ملاحظة: بداية الدولة الصفوية 1501 أو 1502) ويسمي الإيرانيون القارئ من كتاب روضة الشهداء «روضة خوان» في إحياء ذكرى الحسين.

(المعجم الفارسي- العربي الجامع، د. حسين مجيب المصري، القاهرة 1983، ص181).

جدير بالإشارة أن الإيرانيين ينطقون روضة «روزة»، فيقولون عن القارئ على منبر الحسينية «روزة خان» ويكتبونها «روضة خوان»، أي قارئ أشعار «روضة الشهداء»!.

كان الشيخ «الكاشفي» خطيباً واسع الشعبية بالغ الشهرة في مدينة هرات الأفغانية، وتقول المادة المنشورة عنه في الويكيبيديا الفارسية بالإنترنت، إنه كان يقيم مجالس الوعظ والخطابة بانتظام، وكان إلقاؤه وأسلوبه وإنشاده تلاقي قبولاً واسعاً من الجمهور عامة وخاصة، وكان من أصعب الأمور الحصول على موضع للجلوس بين الجمهور المحتشد، وكان بينهم أحيانا كبار شخصيات الدولة.

وقد استفاد «كاشفي» من هذه الرعاية الرسمية من الدولة التيمورية وأمرائها، فوضع عدداً كبيراً من الكتب يحصي منها الباحثون نحو الأربعين في التفسير والفقه والمعارف الدينية والأدبية وديوان شعر، وكذلك في علوم السحر والحساب... إلخ. نشر بعضها مطبوعاً والكثير منها لا يزال مخطوطاً لم يحقق أو يُنشر بعد، ويلاحظ الباحثون أن «كاشفي»، كسائر رجال الدين المسلمين في إيران وغيرها، كان على معرفة باللغة العربية، غير أن كتبه ومؤلفاته كلها باللغة الفارسية، وإن كانت عناوينها في أكثر الأحيان باللغة العربية، وهو أمر ملاحظ وتقليد معروف في الوسط الديني في إيران والدولة العثمانية والهند وغيرها.

من مؤلفاته المحققة والمنشورة «أخلاق محسني» في إدارة الدولة، و»أسرار قاسمي» و»الرسالة العلية في الأحاديث النبوية» في تفسير أربعين حديثاً، وقد أهدى الكتاب إلى نقيب الأشراف في «سبزوار»، وكتاب «أنوار سُهيلي» في شرح ونقد كليلة ودمنة، و»بدايع الأفكار في صنايع الأشعار» و«جواهر التفسير»، ومن مؤلفاته غير المنشورة «النقاوة في أدب التلاوة» و«مجالس الوعظ» و»مرآة صفات المصطفى» وغيرها.

وخضعت «هرات» الأفغانية في تلك الفترة للكثير من المؤثرات الشيعية، وكانت النقشبندية أبرز طرقها الصوفية السنُية الذين كانوا كذلك ممن يسمون التفضيليين، ممن يقرون للخلفاء الراشدين بالفضل والمكانة مع تفضيل الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته، وكانت «هرات» وسط شد وجذب بين المذهبين إثر صرع قبائل الأوزبك السُنّية مع تنامي التوجهات الشيعية شرق إيران في نهاية القرن التاسع الهجري، وما شهد من مقدمات تأسيس الدولة الصفوية.

كان تحديد مذهب وانتماء «الواعظ حسين كاشفي» مثار جدل على الدوام وقضية معقدة أيام حياته ولا تزال.

وتقول أستاذة العلوم الشرقية في جامعة «تورنتو» بكندا سابتلني Sabtelny، إن من الصعوبة بمكان الحصول على دليلش قوي ومقنع بانتماء «كاشفي» إلى المذهب الشيعي، وبخاصة أن التعاطف مع «أهل البيت» وتوقيرهم كان من الأمور الواسعة الانتشار بين مسلمي شرق آسيا في تلك المرحلة، ولا يصلح كدليل في هذا المجال حتى قيام كاشفي بتأليف كتابه «فتوّت نامه سلطاني» الذي أهداه إلى المشرفين على ضريح ثامن أئمة الشيعة الاثني عشرية «علي بن موسى الرضا» المدفون في مدينة «مشهد» بخراسان.

ففي مقدمة الكتاب نفسه إشارة وذكر للخلفاء الراشدين، كما أن «النقشبندية» يعودون ببداية سلسلة مرشديهم إلى الخليفة أبو بكر الصديق. وتقول «سابتلني» إن السلطات في «هرات» عينته قاضياً في ولاية «بيهق» بمنصب رفيع وهو «قاضي القضاة» بمرسوم من السلطان «حسين بايقرا»، ولهذا كله، تقول الباحثة، من المستبعد أن يكون كاشفي شيعي المذهب.

وتنقل الباحثة كذلك عن «حكيم شاه محمد القزويني» الذي ترجم للسلطان العثماني «سليم الثاني» كتاب «مجالس النفائس»، دفاع القزويني عن «كاشفي» و»عدم اعتباره من الشيعة، فيقول إن الكاشفي من مدينة سبزوار الإيرانية حقاً، (ولكنه بريء من «الرفض»- أي التشيع لعلي- الذي يتمسك به أهل مدينة «سبزوار»، ولا ينتمي إلى مذهبهم الباطل رغم أن التهم تطوله».

وعلى النقيض من آراء المستشرقة «سابتلني» التي تؤكد انتماء «كاشفي» إلى المذهب الحنفي السنّي، يرى الباحث «جواد عباس» محقق كتاب كاشفي «جواهر التفسير»، أن كاشفي كانت لديه ميول شيعية أساسية، وكان في الواقع يمارس «التقية- أي عدم إظهار حقيقة مذهبه- بسبب الجو المذهبي السني المتشدد في مدينة «هرات»، ومن أدلة «جواد عباس» أن «كاشفي» كان ممن ولد وعاش في مدينة «سبزوار» الإيرانية، وكانت هذه المدينة على مدى قرون من أهم قواعد التشيع في خراسان، فمجرد انتمائه إلى هذه المدينة فإن ذلك من أقوى أدلة تشيعه، يضاف إلى ذلك أن «كاشفي» ترعرع في بيت من رجال الدين الشيعة، وكان والده من العاملين برواية الحديث وعلومه، وقد درس حسين نفسه على يدي والده، كما كان الأب والابن لاحقاً، ممن يشرفون على إجازة الفقهاء الشيعة، أي منحهم ما يعادل شهادة العالمية بعد اجتيازهم مرحلة دراسية معينة.

ويضيف «جواد العباسي» أن كاشفي أنجز كتاب «روضة الشهداء» عن مصائب أهل البيت في كربلاء وبخاصة الحسين بن علي عام 908هـ، أي قبل وفاته بعامين، حيث اتبع كاشفي الأسلوب الشيعي في التأليف.

ويدحض العباسي انتماء كاشفي لمذاهب أهل السُنّة الحنفية أو الشافعية، أما توقير كاشفي للخلفاء الراشدين فظاهرة معروفة في المجاملة المتبادلة، أما بقاؤه في «هرات» فالسبب الأول فيه هو أهمية المدينة في علوم وثقافة وفنون ذلك «العصر التيموري». ويقول» د. رضا زاده شفق» في كتابه «تاريخ الأدب الفارسي»، القاهرة 1974 عن هذا العصر: كان «غازان» أول سلطان من المغول يعتنق الإسلام في إيران. وقام التيموريون بعد نصف قرن من انقراض المغول، وهم من ذوي قرابتهم، بتأسيس سلطانهم في إيران أيضاً، وظل هؤلاء يحكمونها حتى أوائل القرن العاشر الهجري حين قامت الدولة الصفوية.

ومن مشاهير أسرة التيموريين «تيمورلنك» و«شاهرخ» و«أُلغ بيك» و«أبو سعيد» (ص 129)، لكن «كاشفي»، بما قد يؤكد انتماءه المذهبي السني، يعتبر في كتابه «جواهر التفسير» أتباع المذهب الحنفي «الفرقة الناجية» بين سائر المسلمين! أما «جواد عباس» الذي يشكك في انتماء كاشفي لأهل السُنّة، فيقول إن مجاملة كاشفي للأحناف في مدينة «هرات» مرجعها أن كاشفي قام بتصنيف الكتاب «جواهر التفسير» في مدينة «هرات» بدعم وتمويل من الأمير «علي شير نوائي» وكان الأمير بلا ريب من أتباع المذهب الحنفي السائد في أفغانستان، وينفي العباسي حتى انتماء كاشفي للفرقة «النقشبندية» من المتصوفة!

تلقى الواعظ «كاشفي» الهجوم من الطرفين، فمعظم أهل السُنّة في مدينة «هرات» كانوا يتهمونه بالتشيع، في حين كان مواطنوه الإيرانيون في مسقط رأسه سبزوار، يعتبرونه من أهل السُنّة ومن أصحاب العلاقة مع كبار شخصيات السُنّة، في حين اعتبر آخرون مواعظه في هرات «لا تخلو من البدع والمستحدثات».

ومن الطرائف التي يرويها القاضي «نور الله شوشتري» في كتاب «مجالس المؤمنين»، تقول الويكيبيديا الفارسية، إن كاشفي كان ذات يوم منهمكاً في خطبة بجامع «سبزوار» بإيران، وكان يتحدث عن أن «جبرائيل» نزل 12 ألف مرة على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) خلال حياته، وإذ بشيخ يقف أمام الخطيب «كاشفي»، وبيده هراوة أو عصا غليظة!

كان هذا الشيخ من غلاة الشيعة فيما يبدو، وسأل كاشفي: كم مرة نزل جبريل إذاً على الإمام علي بن أبي طالب؟ فبُهت الخطيب كاشفي، وخاف أن يكذب إن قال ما يريده الشيخ الغاضب، أو أن ينفي نزول جبريل على الإمام علي، فقد يهشم الشيخ بعصاه الغليظة رأسه.

وأجاب كاشفي بذكاء فريد من نوعه، قائلاً: (من الأحاديث النبوية المعروفة، «أنا مدينة العلم وعليٌ بابها»، ولهذا فإن من المؤكد أن جبريل نزل 24 ألف مرة على الإمام علي، أي ضعف عدد مرات نزوله على الرسول، ذلك أن جبرائيل كان يمر 12 ألف مرة على باب مدينة العلم داخلاً و12 ألف مرة خارجاً من الباب نفسه، فتلك 24 ألف مرة».

ما الذي لم ينل نصيبه من البحث في هذه القضية التاريخية؟ تقول الأستاذة الكندية «سابتلني» إن الباحثين صرفوا معظم الوقت والجهد في إثبات ودحض تشيع وتسنن «كاشفي»، ولم يركزوا كثيراً على المصادر الأدبية والتاريخية التي استقى منها ناظم «روضة الشهداء» التفاصيل والمعلومات في إعداده قصائد الملحمة. ويبدو أن الصفويين أرادوا كتاب «الروضة» مصدراً أساسيا للتعبئة الدينية وأداة في صراعهم السياسي مع العثمانيين وغيرهم، وهكذا ترسخت مع مرور الوقت أشعار «حسين واعظ كاشفي» في مأساة كربلاء، وظهرت إلى جانبها أشعار وقصائد كثيرة أخرى، غدت المادة الأساسية في المراثي الحسينية، وأشعار مأساة كربلاء، ولم يعد أحد يكترث فيما إذا كان «كاشفي» من الشيعة أو السُّنّة!

back to top