ما قل ودل: د. جنان ملحمة ودرس في العظمة

نشر في 17-11-2019
آخر تحديث 17-11-2019 | 00:10
 المستشار شفيق إمام يقول شكسبير "إن بعض الناس يولد عظيماً، وبعضهم يصبح عظيماً، وبعضهم يحقق العظمة، أما بعضهم فإنه يجد العظمة تلقى على كتفيه".

وقد حققت الوزيرة د. جنان بوشهري ملحمة ودرسا في العظمة في مرافعتها الرائعة ردا على الاستجواب الذي وُجه إليها، وحازت بذلك ثقة الأمة كلها، وهو ما يتداوله الخاصة والعامة في أغلب الديوانيات في حدود علمي مع من التقيت، بالرغم من الطلب الذي قدم بطرح الثقة بها.

وهي ليست المرة الأولى، التي أنبهر فيها بأداء وزير في الاستجواب، فقد كتبت على هذه الصفحة مقالاً عن الأداء الرائع للدكتور أحمد الجارالله تحت عنوان "وزير المرضى"، وكتبت عن د. نورية الصبيح تحت عنوان "خلقت لكي تكون وزيرة".

مرافعة رائعة

يقول المولى عز وجل: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".

نعم، لقد كانت مرافعة الوزيرة ملحمة رائعة ودرسا في العظمة، ويزيد من روعتها ما بدا لكل من استمع إلى هذه المرافعة سواء في المجلس أو من خلال التلفاز، وما لمسه الجميع من أن إحساس الوزيرة بالمسؤولية، وهي ترد على اتهامها بالتقصير في الاضطلاع بمسؤولياتها كان مضاعف الأثقال عليها، فاستهلت ردها واختتمته بالآية الكريمة "إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي". فلبت الوزيرة نداء الواجب في الرد على هذا الاتهام مستهدفة إعلاء كلمة القانون وإظهار الحق ورفع راية العدل تحت قبة عبدالله السالم بكل وقار وإجلال.

ويزيد من روعة هذه المرافعة أيضا أن الوزيرة لم تستهلها بمقدمة إنشائية أو أدبية تدغدغ بها المشاعر، وتعتبر مثل هذه المقدمة جوهر أي خطاب سياسي، يمارسه السياسيون من نواب ووزراء، أو بمقدمة دستورية يرتكز عليها صحيح دفاعها، كما لم توظف الدين في استهلال دفاعها، بسرد الآيات القرآنية التي يرتكز عليها صحيح دفاعها، والتي تحفل بها الاستجوابات وردود الوزراء عليها.

فلم يكن خطابها خطاباً سياسياً، يبلغ من السياسة أقصى الغاية، في كلام منمق يلهم السمع، ويلهب الخاطر، ويسعد الأذن، ويخطف البصر، بل كان خطاباً موضوعياً وعلمياً استطاع أن يحقق كل ذلك لأنه احترم الواقع بشفافية، والتزمه بمصداقية، واعتصره اعتصارا، فاستخرجت منه الوزيرة الحقائق ناصعة جلية، في دحض كل اتهام وُجه إليها.

إلا أن الوزيرة بالأرقام التي عرضتها وبالمستندات التي طرحتها ووزعتها على الأعضاء، وبالوقائع التي حصلتها وبالقرارات التي أصدرتها في نضالها لحماية المال العام، على المستوى التنفيذي وأمام القضاء ضد أساطين المال وكبار رجال الأعمال، والغرامات التي وقعتها عليهم، ومطالبتها جهاز المناقصات إيقاف المقصر منهم، قد فندت ببراعة كل محاور الاستجواب، بأسلوب علمي ورقة وأدب جمّ، وشجاعة منقطعة النظير.

«إلا الذين ظلموا منهم»

كانت هذه الآية الكريمة هي التي استهلت بها الوزيرة، واختتمت خطابها الرائع، قالتها في رقة وتواضع وإجلال، فهي كانت تنتظر في قاعة عبدالله السالم أن تلقى محاكمة منصفة عادلة، لأن المحاكمة السياسية، لا تختلف عن المحاكمة القضائية في الضمانات، وفي حماية العدالة.

وفي الولايات المتحدة الأميركية يقسمون في مجلس الشيوخ قبل بدء محاكمة الرئيس على أن يحكموا بالعدل لأنهم أصبحوا في هذه المحاكمة السياسية قضاة في جلسات يترأسها رئيس المحكمة العليا الاتحادية. يقول المولى عز وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ". ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات، لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". ويقول عليه الصلاة والسلام، أيضاً: "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة". ويقول أبو مسلم الخولاني: "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعا وجرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

وفي ظلال العدل الذي هو أسمى الغايات وأنبلها قصداً، يصدر قضاة البرلمان حكمهم والمتهم وديعة بين أيديهم ليحكموا في أمره بالعدل الذي هو أعز المقدسات وأغلاها، وهم فيما يصدرونه من حكم مدينون لربهم ولأنفسهم بما يعتقدون أنه الحق الخالص.

إنها ولاية القضاء، وهي أعلى الولايات قدراً، وأجلها خطراً، وأعزها مكاناً، وأعظمها شأناً، وأشرفها ذكراً، ومن الصفات التي يجب أن يتحلى بها القاضي الحيدة والتجرد، بحيث لا يكون بينه وبين من يحكم له مودة يرجح معها عدم استطاعة الحكم بغير ميل أو عداوة، إنها الأمانة التي يجب أن يؤديها القاضي متحرراً من كل الضغوط أو القيود أو المؤثرات أو الإغراءات أو التدخلات، لا تضعفه رغبة أو تثنيه رهبة، غير مبال بما يحفّ به من مكاره. تلك هي رسالة القاضي، ونبض حياته.

السياسة والعدالة

ولكن الاستجواب الموجه إلى الدكتورة جنان في هذه الجلسة دخل في معترك سياسي لا يأبه بالأرقام أو الوقائع، بل بالملاءمات والحسابات السياسية، فالسياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان، وإذا اجتمعا لا يتمازجان، والواقع أنهما مختلفان فى الطبيعة والوسيلة والغرض، فالعدالة من روح الله والسياسة من صنع الإنسان؛ والعدالة تتطلب حقا والسياسة تبغي مصلحة، غير أن أخطر ما في السياسة أنها ترى من حسن السياسة أن تخلع على المصلحة رداء الحق.

هذه الكلمات والعبارات الرائعة قالها رمز من رموز الوطنية المصرية في النصف الأول من القرن الماضي هو المرحوم مكرم باشا عبيد.

كل التقدير للنائبة صفاء الهاشم

مني ومن كل من استمع إلى المرافعة القيمة للنائبة صفاء الهاشم، والتي كانت مرافعتها عن الوزيرة بدورها ملحمة رائعة، أهازيج من الحب ورياحين من السلام وزعتها على الجميع بلا استثناء، كانت بحق حمامة السلام في مجلس الأمة في هذه الجلسة، وقد وصفت النائبة صفاء الوزيرة بأنها وحدها فريق كامل، فضلا عن تقديرها للنائب المستجوب د.عمر الطبطبائي الذي أحمل له شخصياً كل التقدير، فقد اجتهد وللمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ، وإن أفرط في اجتهاده كذلك فالمصلحة العامة كما تقرر المذكرة التفسيرية للدستور هي رائد الوزير في الحكم، وهي كذلك رائد المجلس في الرقابة، فوحده هذا الهدف كفيل بضمان وحدة الاتجاه وتلاقي المجلس والحكومة، في تقدير مصلحة المجموع على قدم المساواة.

والتقدير للنائب عادل الدمخي، الذي كان رقيقا في خطابه وهو يؤيد الاستجواب، حتى ظنت الهاشم أنه يؤيد الوزيرة.

ولم يكن يقف خلف قرار الحكومة بالاستقالة غير تقدير مصلحة المجموع حكومة وبرلمانا، توجته حكمة صاحب السمو الأمير بقبول استقالة الحكومة، وهو الأمر الذي سنتناوله غداً حول الآثار المترتبة على استقالة الحكومة.

back to top