«المنطقة الآمنة» وطموحات إردوغان المتعلقة بالأراضي

نشر في 20-09-2019
آخر تحديث 20-09-2019 | 00:00
جانب من الحدود السورية مع تركيا (أرشيفية)
جانب من الحدود السورية مع تركيا (أرشيفية)
الجهود المشتركة بين القوات الأميركية والتركية لم تمنع إردوغان من انتقاد الولايات المتحدة، فقد اتهم واشنطن بالسعي إلى إقامة منطقة آمنة لـ«منظمة إرهابية»، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردي، التي تصنفها تركيا جماعة إرهابية. وأوضح إردوغان أنه «إذا لم نبدأ بتشكيل منطقة آمنة مع جنودنا في شرق الفرات قبل نهاية سبتمبر فلن يكون لدينا خيار سوى تنفيذ خططنا الخاصة».
اتفقت واشنطن وأنقرة حتى الآن على «منطقة آلية أمنية» لنزع فتيل التوتر، والتركيز على 75 منطقة عازلة طولها ما بين تل أبيض ورأس العين، مع قيام الجيشين بإنشاء مركز مشترك للعمليات في أنقرة. وفي نهاية الأسبوع الماضي، وبعد أربع جولات استطلاعية في المنطقة، أجرت القوات الأمريكية والتركية أول دورية برية مشتركة، لكن تلك الجهود المشتركة لم تمنع إردوغان من انتقاد الولايات المتحدة منذ ذلك الحين، حيث اتهم واشنطن بالسعي إلى إقامة منطقة آمنة لـ»منظمة إرهابية»، في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردي، التي تصنفها تركيا كجماعة إرهابية، وأوضح إردوغان أنه «إذا لم نبدأ بتشكيل «منطقة آمنة» مع جنودنا في شرق الفرات قبل نهاية سبتمبر فلن يكون لدينا خيار سوى تنفيذ خططنا الخاصة».

ومنذ ذلك الحين انتقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الولايات المتحدة، قائلاً إن مواقف الولايات المتحدة من المنطقة الآمنة في سورية لا تطمئن تركيا، وقال «إن الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة كانت تجميلية فقط». تعكس هذه التصريحات التركية المناهضة للولايات المتحدة عدم الثقة بين الجانبين، مما يوحي بأنه سيكون من المستحيل منع عداء إردوغان تجاه واشنطن ونواياه تجاه الأكراد السوريين من خلال الحفاظ على السياسات الحالية تجاه تركيا، خاصة وأن بوتين يدفع إردوغان نحو المواجهات والعنف مع الأكراد، وخاصة في إدلب. كما عبر المسؤولون الأميركيون عن شكوكهم في قدرة الجيش التركي على مواصلة هذه العملية المكثفة والمعقدة في شمال شرق سورية، لكنهم في الوقت نفسه ما زالوا قلقين من أن أي غزو تركي سيتعارض مع أهداف وجهود مكافحة الإرهاب الأميركية وعلاقاتها مع الحليف الناتو. ونتيجة لتلك المخاوف، يقال إن البنتاغون يستعد حاليا لإرسال نحو 150 جنديا إلى شمال شرق سورية للقيام بدوريات حراسة على الأرض إلى جانب القوات التركية. هذا الانتشار الجديد، الذي كان قد أبقي في السابق سراً، هو جزء من سلسلة من الخطوات العسكرية والدبلوماسية المتنامية التي اتخذتها الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة لنزع فتيل التوترات المتزايدة مع تركيا حليفة الناتو بشأن دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأكراد السوريين، وهي تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو كبح جماح المصالح التركية في شمال شرق سورية.

وتتمحور التحديات التي تطرحها هذه المنطقة الآمنة حول بعض ساكنيها الحاليين، السوريين الأكراد. ففي عام 2014، التزمت إدارة أوباما وحلفاؤها في التحالف بدعم أكراد سورية في حربهم ضدّ تنظيم «داعش»، غير أن خطاب إردوغان اللاحق وتصرفاته أججت بشكل مستمر التوترات ومارست الضغوط على الأكراد في كردستان العراق وسورية على السواء. وفي 2014 على أقرب تقدير، شملت استراتيجية الرئيس التركي ترك سكان كوباني– مدينة سورية تؤوي شريحة كبيرة من الأكراد على مقربة من الحدود التركية– لمواجهة «داعش» بمفردهم، وشوهد الجنود الأتراك وهم لا يحركون ساكنًا في حين يتمّ تسوية كوباني بالأرض. فضلا عن ذلك، استمر إردوغان في تطبيق سياسات تستغل الوجود المتواصل للتطرف في سورية من أجل تحقيق مكاسب جيوسياسية، كل ذلك سعيا إلى الحدّ من الطموحات الكردية على الحدود الجنوبية لتركيا وتقويض التعاون بين الأكراد والقوات الأميركية في الحرب ضدّ تنظيم «داعش».

لكن حدة سياسات إردوغان وخطاباته التحريضية ضد أكراد سورية تصاعدت في أعقاب قرار الرئيس ترامب الانسحاب من سورية، فرغم أن الولايات المتحدة واصلت تحيّزها لحلفائها الأكراد خلال هذه الفترة، كان وقوفها ضدّ التدخل التركي غير فعال، مما عزّز بشكل أكبر استعدادات إردوغان لتوجيه ضربة ضد أهداف كردية في سورية. في ذلك الوقت، لم يساهم غياب رسالة واضحة من الإدارة إلا في ترسيخ عزم إردوغان على اجتياح المناطق الكردية، مبررا أفعاله هذه بمزاعم أن الأكراد يطرحون تهديدا على الأمن القومي التركي. ولاحقا، حوّل إردوغان أقواله إلى أفعال من خلال التآمر مع روسيا وإيران في غزو الجيب الكردي السوري في عفرين، الأمر الذي سمح في نهاية المطاف للمجموعات المتطرفة السورية المرتبطة بتحالف المعارضة السورية بارتكاب جرائم حرب لا تحصى بحق الأكراد واليزيديين.

وفي ظل مساعيها إلى إلغاء الوجود الكردي على الحدود السورية، سلّحت تركيا أكثر من 40 ألف مقاتل سوري، ودعمت منظمات متطرفة إسلامية وتلقت الدعم من المعارضة السورية من أجل فرض حصار على مناطق الأكراد. ومنذ ذلك الحين، يطالب الأكراد الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بإنشاء منطقة حماية أو «منطقة حظر جوي» في وجه هذه الجماعات المعارضة العنيفة. غير أن أمن أكراد سوريا سيتحسن فقط من خلال تغيير أطر المنطقة الآمنة القائمة حاليًا.

وخلال المفاوضات مع الولايات المتحدة، سعت تركيا إلى إقامة خط بعرض 40 كيلومترا وبطول 380 كيلومترا، في حين كان عرض الولايات المتحدة أقل بكثير حيث اقترحت إنشاء خط بعرض يتراوح بين 7 و10 كيلومترات وبطول 140 كيلومترا من كوباني إلى القامشلي. وبعد الكثير من النقاش من الطرفين، تمّ تعليق القرار بشأن الأبعاد الفعلية للمنطقة، حتى لو كانت عملية إقامة المنطقة بحدّ ذاتها تحرز تقدمًا.

لكن مع تبلور العملية، من الضروري ألا تغيب طموحات تركيا في المنطقة عن بال الولايات المتحدة. فدور إردوغان وروحاني وبوتين في عرقلة التوصل إلى أي حل سياسي للنزاع السوري، ومساهمة تركيا في انتشار التطرف في سورية من خلال توفير الدعم اللوجستي للجماعات المتطرفة وسيطرتها على جماعات جهادية راديكالية في إدلب وجرابلس والباب وعفرين، كلها عوامل أظهرت تركيا بمظهر الحليف غير الموثوق، وهو أمر يجب أخذه في الحسبان خلال إقامة المنطقة الآمنة.

فإردوغان ينفذ تكتيكاته المخادعة أساسا، حيث أعلن وزير الدفاع التركي مؤخرا أن روسيا ستستأنف تسليم منظومة الدفاع الصاروخية أس-400 إلى تركيا معارضةً بذلك رغبات الولايات المتحدة. ورغم تبرير هذه المشتريات بالمخاوف الأمنية، انحرفت ممارسات تركيا الأخيرة جدا عن الأفعال التي من شأنها تحقيق هذا الهدف، ما يشير إلى أن هذه الأسلحة قد تُستخدم لتوسيع الهيمنة التركية.

في المقابل، هدّدت الكثير من الأفعال التي نفذتها تركيا في سورية تحت راية حماية أمنها القومي الأمن من خلال تعريض البلاد لمخاطر أمنية ومالية بسبب تدخلها في سورية، وإلى أن تردّ الولايات المتحدة وتتصدى لجهود إردوغان، سيواصل هذا الأخير اللجوء إلى الخداع للفوز بالامتيازات وكسب الوقت.

وإن أقيمت المنطقة الآمنة في سورية وفق شكلها الحالي المتفق عليه، فسيعاني حلفاء الولايات المتحدة الأكراد من دون أن يعود ذلك بفائدة حقيقية على أمن تركيا. عوضا عن ذلك، ستسهّل المنطقة الآمنة قمع إردوغان المستمر للأكراد من خلال سياسته المتشددة المعارضة لأي مكاسب سياسية قد يحققها الأكراد، في وقت يسرّع فيه التدخل التركي في سوريا. وفي الواقع، قد يؤجج توسيع المنطقة الآمنة، إلى جانب سياسة تركيا القائمة على تعزيز سيطرة الجماعات المتطرفة والمعارضة على شمال شرق سورية، شرارة نزاع آخر هذه المرة بين السوريين العرب والأكراد.

ومن شأن نزاع مماثل أن يعقّد الأزمة السورية بشكل أكبر، غير أن صمت الولايات المتحدة إزاء المسألة منح إردوغان الدعم الذي يحتاجه للمضي قدما في تنفيذ أجندته في سورية، بما في ذلك من خلال اعتماد سياسات بغيضة معادية للمهاجرين محليا، التي ربما صُمّمت لتنذر بإعادة توطين الملايين من المهاجرين السوريين الذين يعيشون حاليا في تركيا في مدن كردية، وستشرد هذه العملية سكان المنطقة الحاليين وتكون بمثابة تكرار واسع النطاق لما حصل في عفرين. كذلك، قد تسهّل سيطرة تركيا على المنطقة الآمنة نقل إيران للأسلحة والمال إلى «حزب الله» ونظام الأسد، مما يساهم في استمرار النزاع في مناطق أخرى من سورية أيضا.

هذا وقد تساهم سيطرة تركيا على المنطقة الآمنة أيضا في الالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران، فإن خضعت هذه المنطقة الآمنة لسيطرة تركيا، فسيحصل إردوغان على منفذ إلى مصادر رئيسة للطاقة والغاز والنفط، كما قد تستخدم تركيا حدودها المشتركة مع سورية والعراق لشراء الغاز الإيراني وتهريب السلع من طهران إلى أنقرة عبر سورية بغية الالتفاف على العقوبات الأميركية. يُذكر أنه سبق لتركيا أن تجاهلت العقوبات الأميركية في الماضي، بما فيه عام 2012 عندما ساعدت إيران في تهريب 85 طنا متريا من الذهب عبر دبي، التي تعتبر مركز شحن معروفا إلى إيران.

وكي تحافظ الولايات المتحدة على مصالحها في سورية وتواصل مكافحة الإرهاب، عليها حماية حلفائها الأكراد من التهديدات التركية في المنطقة الآمنة، وبإمكانها القيام بذلك من خلال ضمان أمن الحدود بين تركيا والأكراد داخل سورية، وتفويض مراكز الجيش بمراقبة المنطقة، وممارسة الضغط على تركيا للانسحاب من المدن السورية، ودعم حل سياسي برعاية الأمم المتحدة. وعلى الولايات المتحدة السعي إلى منح أكراد سورية استقلالية لضمان مصالحهم ومستقبلهم في المنطقة، ففي النهاية اتضح أن حلفاء الولايات المتحدة الأكراد في سورية أكثر ولاء لمصالح الولايات المتحدة وحلف «الناتو» من تركيا.

جون صالح- واشنطن إنستيتوت

back to top