أحمد زكي... «المتفرد» (1-15)

اليتيم

نشر في 23-05-2019
آخر تحديث 23-05-2019 | 00:02
هو «العبقري»... «الاستثنائي»... الظاهرة التي لم تتكرر، والموهبة التمثيلية الفريدة التي قلبت الموازين، الرجل الذي قال عنه روبرت دي نيرو إن «هوليوود» خسرت موهبته.
كان «غولاً» أمام الكاميرا، ماهراً في السطو على القلوب، بديعاً في تناوله للشخصيات فنجح في تحويل الحروف إلى نبض وأحاسيس ومشاعر.
قالوا عنه «ترمومتر الموهوبين»، الذي تقاس من خلاله المواهب الأخرى في فن الأداء، و«صوت المهمشين» على الشاشة عبر عشرات الأفلام التي عبّر فيها عن أحلامهم وطموحاتهم وإحباطاتهم أيضاً... إنه العملاق أحمد زكي، واحد من أبرز علامات السينما المصرية، «صائد الجوائز»، الذي تربّع على القمة لأكثر من ربع قرن، ولايزال يعيش في وجدان عشاق فنه.
في هذه الحلقات نستعرض سيرة الأسمر صاحب «الموهبة الاستثنائية» المتفردة، رافع شعار «السهل الممتنع»، وكيف نجح بملامح كان البعض يراها «قبيحة» في التربع ليس فقط على القمة، لكن داخل القلوب.
في حي «الحسينية» الذي يقع على أطراف مدينة الزقازيق (عاصمة محافظة الشرقية)، توطدت علاقة الصداقة بين زكي، وعبدالمنعم وكامل، اللذين كانا يعملان في إدارة «سوق الثلاثاء»، الذي يعج أسبوعيا بالباعة والمشترين لمختلف السلع، إذ تزوج زكي من رتيبة، الأخت الكبرى لعبدالمنعم، في حين تزوج كامل من خيرية أخته الصغرى.

كان زكي متولي عبدالرحمن بدوي شابا متدينا، مستور الحال، تزوج رتيبة وأنجب منها صباح التي توفاها الله بعد أن أصيبت بالحمى، قبل أن يرزقها الله بطفل أطلقت عليه أحمد، تيمّنا باسم سيدي أحمد الرفاعي (أحد الأولياء الصالحين) في الثامن عشر من نوفمبر عام 1949.

الغريب أن بعض الأقلام التي تناولت سيرة أحمد زكي بعد رحيله، راحت تؤكد أن له شقيقا اسمه صبري، وأنه كان يعمل خبازا وتوفي بعد رحيله بسنوات قليلة، وأن هذا الشقيق كان قد انتقل مع أمه لبيت الزوجية الجديد، في حين ظل الطفل الرضيع أحمد في بيت جدته، وهو ما نفاه تماما ابن خاله سمير عبدالمنعم الفنان التشكيلي

وصديق عمر زكي ورفيق مشواره بالحياة، مؤكدا أن الراحل لم يكن له إلا شقيقة وحيدة فقط هي صباح، التي رحلت قبل أن تكمل عامها الثاني.

زكي لم يحك كثيرا عن شقيقته ابنة الموت صباح، لأنه كان صغيرا حينما رحلت عن الدنيا، ومن ثم لا يعي الكثير من التفاصيل، فلا ذكريات ولا حتى «خصومات طفولية»، يضاف إلى ذلك أن الموهوب الراحل لم يكن يتحمس للحديث عن حياته الخاصة والعائلية بشكل عام، وليس فقط ما يتعلق بشقيقته الراحلة أو بقية إخوته من والدته، محمد وإيمان ومنى وإلهام، حتى والدته رتيبة لم يحك عنها كثيرا.

كذلك والده لم يرد ذكره إلا بعبارات مقتضبة، فقد فارق الحياة بعد صراع قصير مع المرض وعمره لم يتجاوز العامين، ملامحه تعرف عليها فقط عبر بضعة صور قليلة لم تصمد كثيرا في ذاكرته، حتى حكايات الأهل والأصدقاء عنه على قلّتها لم تقبع طويلا في وجدانه.

لم يدرك يوما معنى كلمة أب أو أم، وعندما كان يصادف هذه الكلمات في حوار مسلسل أو فيلم كان يشعر بحرج شديد، بما يستعصي عليه نطقها بسلاسة، وهو ما سبق واعترف به زكي في أحد حواراته، ولخّص من خلاله، ببساطة، علاقته بوالديه، فالأب رحل ولم يتجاوز هو العامين، و«الحرمان» من الحنان والعطف لم يقتصرا على عاطفة الأبوة فقط، لكنها امتدت أيضا إلى حنان الأم وعطفها، حيث حرم منه قهرا لا اختيارا.

فالأم «فلاحة صبية» لا يجوز أن تظل عزباء، لهذا زوجوها بعد وفاة والده، وعاشت مع زوجها، فكبر زكي في بيوت العائلة، لدرجة أنه رآها لأول مرة وهو في السابعة من عمره، كما صرح في أحد حواراته، يومها لم يعرف من هذه المرأة الحزينة التي ظلت تنظر إليه بعينين حزينتين قبل أن تقبّله وترحل من دون كلام، تلك النظرة التي لم ينسها أبدا، حتى عندما كبر كانت أمه تنظر له نفس النظرة الحزينة ذاتها.

الحرمان

الإحساس باليتم وتبعاته من نظرات شفقة وإحساس بالغربة والعزلة والوحدة وغيرها من المشاعر المحايدة هي كل ما علق بذاكرة زكي، حتى عندما كبر قليلا، وعرف أن أمه لاتزال على قيد الحياة، وبدأ يزورها في بيت زوجها على فترات، لم يفارقه إحساسه بالغربة حتى وهو مع والدته أو إخوته، ظلت دوما هناك غصة في قلبه.

الغربة والشفقة

غير أن الغربة التي ترسخت في وجدان الصغير اليتيم لم تتوقف عند علاقته بأمه أو إخوته فقط، لكنها امتدت للجيران والأقارب، فالكل - على حد توصيفه - كان يتعامل معه بشكل حيادي وفي كل شيء المشاعر والاهتمام، سواء في الفرح أو الحزن.

وفي حوار سابق، اعترف زكي بأنه عاش «غريبا»، صحيح كان هناك «اهتمام»، لكنه محايد مغلف بالشفقة، وبعد أن ماتت جدته ألمظ تنقل بين عدة بيوت، وفي كلها لم يتغير الإحساس، فهو دائما «الغريب»، الجميع يوصون بعضهم «محدش يزعل أحمد.. ده يتيم»، لذا أصبحت علاقته بالجميع محايدة، ينجح «مبروك»، لكن من دون مشاعر، يرسب «معلش المرة القادمة تنجح»، بعكس ما كانوا يفعلون مع أولادهم.

الحياد في المشاعر والعلاقات، الذي استشعره زكي كان شعورا متبادلا بينه وبين الجميع، لهذا كان يرفض أي مساعدة دافعهـــــــــا الشفقــــــــــة، وأي مشــــــاعــر لا يشعر بصدقها، عاش طفولة حائرة كما اعترف مرارا، لم يفهم في البداية سر النظرات الحزينة التي تحاصره من الأهل والمعارف، ومع الوقت أدرك أنها «الشفقة» على اليتيم الذي قدّر له أن يموت والده وهو لايزال رضيعا، قبل أن تتركه أمه قهرا.

أيضا كان يؤلمه دوما أنه مجرد ضيف غريب في كل البيوت وليس صاحب مكان، بغضّ النظر عن المعاملة الكريمة، فكل من يستضيفه مشغول بأولاده يغدق عليهم حبه وحنانه حتى الغضب منهم منطقي ومشروع، باختصار مشاعر حقيقية بخلاف ما قدم له بوصفه اليتيم، مما دفعه بالفطرة لاختيار الصمت، وكأنه غير موجود بينهم أصلا، حيث كان يخجل من المطالبة بحقوقه، أو التعبير عن أمنياته ورغباته، وربما لم يكن يدرك ماهيتها ومن ثم التعبير عنها.

في حوار سابق حكي قائلا: كنت طفلا منطويا جدا، أتأمل ما يدور من حولي في صمت، أراقب العالم من ركني المنزوي، طريقة الكلام وتنويعاتها، وما يخص كل موقف، الابتسامات والضحكات، سواء الصادرة من القلب أو المفتعلة، كذلك لحظات الغضب، الألم والقهر، صحيح في البداية لم أستطع التمييز بين كل هذه الاختلافات، لكنني مع الوقت تمكنت، المؤكد أن جميعها انطبعت في ذهني لم تفارقها أبدا، بل ساعدتني في مهنتي كممثل لاحقا.

وهكذا اختار اليتيم الموهوب وبتلقائية «العزلة»، بل ومارسها بصرامة شديدة، خصوصا في سنوات ما قبل الدخول للمدرسة، والتي بقدر ما ساهمت في توسيع دائرة علاقاته، ومساحات التلقي والوعي بالبشر والأشياء من حوله، لكنها في نفس الوقت لعبت دورا في مزيد من العزلة، فهذا الطفل الذي عرف معنى الحرمان وقلة الحيلة، وعاش داخل عالمه الخاص، افتقد للخبرة وكان «حسن النية»، الحياة بالنسبة له كانت أبيض أو أسود، وعندما خرج للعالم مع دخوله للمدرسة أصيب ببعض الصدمات التي جعلته يتمسك بعزلته أكثر.

وبأسى، اعترف في حوار سابق قائلا:» زمان كان بداخلي طفل جميل حسن النية جدا، كنت أصدق كل شيء بسهولة ودون أدنى جهد من الآخرين، دائما كنت أتوقع الخير فأصدم بالشر، فأصبحت أتوقع الشر تمهيدا لاستقبال الخير، ومع الوقت اخترت الصمت والتأمل اللذين لعبا دورا في أن أكتسب الخبرات، والأهم حماية نفسي من الصدمات خشية مزيد من الوجع والألم.

الغريب أن كل هذا الحرمان الذي عاشه زكي وترك آثاره النفسية عليه، وساهم في تكوينه وتشكيل وجدانه، لم يدفعه لقطع حبل الوصال مع أهله، لم يخلعهما من حياته، بل على عكس ما هو شائع، كان ودودا بأهله وبارا بهم، ودوما كان حريصا على مد حبل الوصال مع عائلته، وبالأخص والدته، وهو ما أكده العديد من أفراد عائلته وفي مقدمتهم محمد أخوه من أمه، حيث حكى كيف كان محبا وبارا بجميع أفراد عائلته، مؤكدا أن البيت الذي تعيش فيه والدته هو الذي تكفل بشراء أرضه وبنائه وتأثيثه في «الحسينية» مسقط رأسه، فقد كان يحلم ببناء بيت يضم الجميع، ليكون بمنزلة بيت للعائلة، تماما كالذي تربي فيه، كما أنه تحمّل تكلفة قيام والدته بالحج والعمرة أكثر من مرة، وكان ينوي اصطحابها للحج لولا ظروف مرضه التي منعته من ذلك، كما أنه كان يتكفل بمصاريف الحج أو العمرة لمجموعة من أفراد العائلة، باختصار كان كريما جدا مع الجميع، يحرص على زيارتهم كلما سنحت ظروفه، أو استضافتهم في منزله لو لم يستطع زيارتهم، وفي حوارات أخرى اعترف أخوه محمد كيف ساعده ماديا ومرارا، كذلك لم يبخل على أي فرد من عائلته بأي مطالب مادية، فهل النضج هو الذي دفع زكي لتجاوز إحساسه بالحرمان؟

الاكتشاف

في الــبـيـــــــــــت الكبـــيـــــــــــر بـ «الحسينية»، كانت أكثر لحظات أحمد سعادة تلك التي كان يسترق فيها السمع لراديو الجيران، ساعات طويلة كان يستمع فيها للأغنيات والمسلسلات أو «التمثيليات»، كما كانوا يطلقون عليها، قبل أن يشرع في تقليد كل ما سمعه في الراديو.

في البداية لم يدرك اليتيم الموهوب أن ما يمارسه هو فن التمثيل، فقط كان يشعر بالسعادة والمتعة، وهو يعيد تقليد ما سمعه، خصوصا عندما لاقت موهبته استحسانا يوم تجرأ وكشف عنها أمام أقرانه من أبناء خاله، حتى اشتهر بقدرته على التقليد.

يحكي سمير عبدالمنعم (ابن خاله) قائلا: كان أحمد يمتلك شخصية ساخرة وقدرة فائقة على التقليد، وذات يوم أخذ يقلد سيدنا شيخ الكتاب الضرير، وبطريقة أثارت ضحكات الأطفال، بالفعل كان بارعا في تقليده، حركاته، نظراته، طريقه كلامه وقراءته للقرآن، ومن جانبنا كنا نتعجب من هذه القدرة، ومن أين تعلمها، وكيف أجادها، لم نعرف أن فترات الصمت الطويل التي كان يلتزم بها لم تكن إلا فترة استعداد وتحضير، قبل أن يكشف عن موهبته التي راحت تتأكد مع الأيام.

ورغم أن المدرسة الابتدائية التي التحق بها زكي لم يكن بها نشاطات فنية ملحوظة، فإن موهبة التقليد لم تفارق الطفل اليتيم حتى ذاع صيته بين الجميع، قبل أن تتطور الموهبة إلى تأليف «اسكتشات ضاحكة» كان يمارسها في «الفسحة المدرسية»، يتخللها تقليد هذا المدرس أو ذاك.

شغف

كبر الصغير وكبرت معه الموهبة، صحيح أنه لم يكن واعيا بحجمها، وأنها ستكون طريقه للمستقبل، إلا أن شغفه بها والمتعة التي كان يستشعرها من خلالها كانت قد كبرت بداخله يوما تلو الآخر، ومع الوقت اكتشف «السينما».

كانت الزقازيق في ذلك الوقت قد عرفت 4 قاعات سينما هي «سلمى» و«مصر»، «وطنية» و«أمير»، ومنذ أن وطئت قدماه هذا العالم ذاب فيه عشقا، سحره تماما، كان يتفاعل بود وحميمية مع كل ما يدور أمامه من مشاعر وأحاسيس تنبض على الشاشة الفضية، في مقتصد مصروفه طوال أيام الأسبوع حتى يتمكن من ارتياد السينما ومشاهدة الأفلام، ليخرج من دار العرض يسرد كل كبيرة وصغيرة، يحكي الأحداث ويقلد بعض الشخصيات، بل يعيد تجسيد مشاهد كاملة أمام أقرانه في المدرسة أو بيت العائلة في ساحة البيت الكبير، والكل يتعجب من قدرته على الإسهاب والتقليد، حتى في الأفلام الأجنبية لم يثنه عجزه عن إجاده اللغات في إعادة تجسيد المشاهد، إذ كان يستخدم بعض الألفاظ الشبيهة، أما التي تحتوي مثلا مبارزة بالسيوف، فكان يطلب من سمير ابن خاله أو أي من أقرانه مبارزته، مستخدما «الخوص» الذي تصنع منه الأقفاص.

التمثيل إذن أنقذ اليتيم من عزلته التي اختارها قهرا، كان يشعر أن بداخله مشاعر

وأحاسيس تريد أن تتحرر من داخله، كما صرح كثيرا، مشيرا إلى أن هذه الموهبة

واستحسان الجميع لها جعلاه مميزا وسط أقرانه وبين أطفال العائلة، لم يشعر بالغربة حتى وسط أقرب الناس له، لكنه بات شخصا مميزا، لديه ما يحكي عنه ويمارسه فيحظى بإعجابهم.

التمثيل بالفطرة

باختصار، انفجرت موهبة الأسمر الصغير بشكل واضح وصريح، وفي تحول مفاجئ وجدت فيه العائلة وسيلة «تسرية للنفوس»، فهو يقلد الغائبين كما لو كانوا حاضرين، يحكي عن أفلام شاهدها، وحكايات سمعها، ومن بيت إلى بيت يقلد هذا أو ذاك، يحكي فيستمعون ويستمتعون أيضا.

حكى زكي كيف استطاع تجاوز أصعب اللحظات بالتقمص، حيث كان يدخل في شخصية أخرى، ويستعير انفعالاتها وطرائق تعبيرها، مؤكدا أنه كان ينسى للحظات أنه أحمد ويتذكر فقط هذا الشخص.

لم يكن أحمد واعيا بأبعاد موهبته، لكن المؤكد أنه تعلّم ومارس فن التمثيل بالفطرة

ودون أن يعلّمه له أحد، كان فقط يمعن النظر ويتأمل، يراقب العالم من حوله ثم يعيد إنتاج المخزون بداخله.

متى إذن أدرك الصغير أن ما يمارسه فن له أصول وقواعد، ومتى قرر أن يواصل طريقه في هذا المجال؟!

أول خشبة مسرح

عندما ضاقت ساحة البيت الكبير بأحمد وأقرانه، بعد أن كثر أطفال العيلة، انتقل إلى ساحة السوق، حيث وجد في كشك البوابة أنسب مكان يمارس عليه هوايته ويشبع رغباته، كان الكشك عبارة عن منصة خشبية تعلو عن الأرض عدة درجات، يحيطها سور خشبي لا يحجب الرؤية ويظللها سقف جملوني من «القرميد الأحمر»، كان يقف على المنصة منفردا يمثّل ما شاهده من أفلام أو ما استمع له في الإذاعة، وأولاد الحي يحيطون بالمنصة يشاهدونه، وأحيانا ينضم بعض المارة يتفرجون على هذا العبقري الموهوب.

مات أبوه وهو رضيع ورأى أمه لأول مرة في السابعة من عمره

كان يكره نظرات الشفقة وعاش غريباً وسط الجميع

تعلّم التمثيل من السينما وراديو الجيران

«التقليد» أول خطوة اكتشف من خلالها موهبته
back to top