المثقف ونهاية الخطاب اليوتوبي

نشر في 21-05-2019
آخر تحديث 21-05-2019 | 00:00
غلاف كتاب «خيانة المثقفين»
غلاف كتاب «خيانة المثقفين»
إن السؤال عن المثقف وفتح حلقة النقاش حول وظيفته لابد أن يتجدد ويتم النظر إلى حدود إمكانياته ومفاعيله على مختلف الصُّعد، لأن مسؤولية المثقف قد تختلف وفقاً لمتطلبات المرحلة وتحولات العصر. لذا فإن الكاتب الفرنسي جوليان بندا، الذي رأى أن المثقف يواجه واقعية الجمهور بالمثالية ويتعالى عن الدخول إلى المعترك السياسي والاجتماعي، ما يلبث أن يقدم رؤية جديدة بعد مراجعة أطروحته، حيث يؤكد على ضرورة انخراط رجل الفكر في الميدان العملي، ومناقشة آرائه في الوسط الاجتماعي، مما يعني التواصل مع الواقع بدلاً من المواجهة.
ولا يخسر المثقف بذلك مثله ومبدأه، بل ما تغير هو تعاظم المسؤولية.
لم يعد المجال متاحاً للمراوغة، فيجب على المثقف اختيار موقفه، إما بالانضمام إلى الضعفاء والأقل تمثيلاً في المجتمع أو الانحياز إلى صفوف الأقوياء، حسب رأي إدوارد سعيد.

قبل تناول واقع المثقف وتضخيم حضوره الشكلي مقابل ضمور تأثيره الفكري وتفكك مشاريعه لابد من الإشارة إلى صورة المثقف في بعض المحطات التاريخية خصوصاً؛ فقد أصبح رجال الفكر والمثقفين في الواجهة بفعل ثورات فكرية وسياسية واجتماعية، إذ حل المثقف مكان الكاهن، لأن قيام الأنظمة الديموقراطية كان يتطلب وجود من يدعم مفهوم سيادة الشعب، وذلك ما نهض به المثقفون الذين غذت طروحاتهم الفكرية الأمل بإمكانية بناء نظام سياسي واجتماعي يتمتع فيه الإنسان بحقوقه، ويبحث عن تطلعاته الفردية. وما يجدر ذكره هنا هو رأي السياسي الفرنسي جورج كليمنصو، الذي جاء تعقيباً على المطالبة بإعادة محاكمة الضابط دريفوس بشأن دور المثقف الذي وصفه بأنه رجل قضية يؤثر على الرأي العام ويعزز الأمل بالمستقبل. طبعاً ما يقدمه المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد لا يختلف كثيراً عن توصيف كليمنصو للمثقف، حيث يرفض صاحب "الاستشراق" الفصل بين العام والخاص في صورة المثقف، لأن الأخير يحمل رسالةً يعبر عنها بوسائط متعددة ولا يهرب من التزاماته المتمثلة في محاربة ظاهرة الكسل الفكري وميل السياسيين إلى تكريس همينة اللغة المتخشبة. وما يهمنا في منطوق أفكار إدوارد سعيد هو إيمانه بحتمية الترابط بين المثقف وأفكاره. ما يعني أن المواقف تعطي القيمة للأفكار، ولولا هذا التماهي بين الفكر والموقف تتهاوى صورة المثقف، وبدلا من أن يكون فاعلاً في تحريك الراكد وينفض سخام الزيف على المظاهر يتحول إلى عامل في كتيبة المدجنين للرأي العام، عبر المنصات التي تحددها السلطة القائمة. كما هو عليه الحال في الوقت الراهن، إذ يتمترس المثقف وراء المؤسسات التي تسحب منه القدرة على التفكير المناقض للوضع القائم، وأصبح وفاضه خالياً إلا من المصطلحات والعبارات المتكلسة عليه. ليست المناهضة ضد الوضع القائم ضمن برنامجه ومخططه، بقدر ما يريد تبرير تقلباته المتسارعة ومواقفه المتناقضة بجملة من عناوين ذات طابع غوغائي تكشف عن القصور في التفكير والعطب في العقلية، وإذا كان المثقف بهذا البؤس والضحالة في الفهم فمن المؤكد أنه يفقد اعتباره. قد يذهب البعض إلى أن من عدم الإنصاف أن يحمل المثقف مسؤولية الخيبات على المستوى السياسي والاجتماعي والفكري، لأن دوره في نهاية المطاف هو مراقبة الواقع وإضاءة ما هو معتم لدى الرأي العام. بالطبع إن هذا القول لا يجانب الصواب، لكن جوهر الأزمة يتمثل في رغبة النخبة المثقفة للتعملق وغزو الفضائيات، ومن ثم يصطدم الجمهور بأن هؤلاء ينتهكون مبادئهم المعلنة. والأدهي في هذا السياق هو ما يمتهنه المثقف اليوم من صناعة المقدس والرموز، ودائما تكون هذه النماذج من خارج الحقل الفكري، يخلع عليها المثقف رداءً أسطورياً، ومن المعلوم أن عملية التقديس تتغذى على واقع متخلفٍ وبائس، لذلك فإن المجتمعات المتخلفة تتناسل فيها الرموز السياسية المقدسة ويتواطأ المثقف في هذا المشروع العبثي، فالبتالي يكون عاملاً في تثبيت أركان الأجهزة التوتاليتارية وبرمجة مشروع تبخيس القيم الإنسانية وتعظيم الأيدولوجيا من خلال القنوات الإعلامية وتدبيجه لخطابات تعبوية.

صحوة الضمير الإنساني

ومن المفارقة أن يكون موقف بعض الفقهاء القدامي أكثر حداثويةً مما عليه المثقفون المعاصرون. إن رفض أغلبية رجال الدين من المذاهب المختلفة الإقرار بفتوى التفكير الصادرة من جهاز السلطة بحق الحلاج مؤشر على صحوة الضمير الإنساني في ذاك الوقت. إذن لم ينجح المثقفون في استلهام هذه المواقف الجريئة من التراث، وفاتهم البناء على الإرث التنويري لبعض أقطاب التصوف الذين كانوا داعمين للمقهورين بآرائهم المستنيرة، وأعلنوا معارضتهم لسلطة جائرة تقيد حرية الإنسان وتسلبه الحقوق تحت مظلة الشريعة والدين. لذا يصح توصيف هؤلاء المتصوفة بالمثقفين الملتزمين، أو أصحاب القضية. وإذا تحولنا إلى محاولة محاكاة نخبة الإنتجلنسيا الغربية فإن ما يقع عليه النظر هو صورة كاريكاتيرية في واقعنا. إذ من أراد أن يكون معبراً عن ضمير الفئات المهمشة أو يدعي مناهضة مشاريع شمولية صار ملحقاً بالكيانات والتيارات المتشبعة بأفكار فاشية وقروسطية، بخلاف المثقفين الذين غادروا انتماءات أيدولوجية وقومية، وفضلوا الاصطفاف إلى جانب من تحملوا وزر حركة التاريخ، على حد تعبير البير كامو، ودشنوا عملية تحرير أنفسهم والآخرين من ربقة الإكراهات الملفعة بشعارات خادعة.

ومن الواضح أن هذا النوع من المثقفين يستمد مصداقيته من زهده للمال والسلطة، ولا تثنيه فداحة الثمن عن المضي قدماً في تعرية المدلسين. وذلك ما يفرق بينه وبين الواعظ الذي يساند الوضع القائم بمواقفه الانتهازية، حتى ولو خالفه ظاهرياً، ونقصد بالواعظ كل من يهمه الحضور الشكلي الذي يحفظ له مصالحه.

قد تختلف الظروف والتحديات، لكن ثمة مبادئ وقيما تضيف إلى حياة الإنسان يستحيل تجاهلها أو إيجاد بديلٍ لها، فإن مهمة المثقف بالدرجة الأولى هي الدفاع عن تلك المبادئ، وكشف القناع عن المساعي الرامية لتسطيح الوعي الجمعي من خلال النفخ بالشعارات القومية أو الجهوية أو الدينية. استنادا إلى ما سلف ذكره عن خصائص المثقف ودوره؛ من الضروري أن نطرح سؤالاً محورياً عن موقع المثقف في هذا التوقيت الحساس والمنفتح على شتى الاحتمالات، هل يتمكن المثقفون من نحت أسئلة ومفاهيم جديدة أم أن النمطية التي فرضتها الرأسمالية في التفكير وأنماط المعيشة ستؤدي إلى تعليب الأفكار وقولبة دور النخبة المثقفة لدرجة ألا يكون هناك مجال للتبصر المعرفي والإدراك الذهني لما يتطلبه واقعنا من المعالجات الجريئة؟! إلى الآن، فإن مؤشرات واقعنا تؤكد شحة الأفكار المخالفة للسائد على المستوى الفكري والسياسي واختزال الأدوار في المظهر وغياب اليوتوبيا لدى المثقفين وانغماسهم في الفذلكات.

المثقف في وقتنا الراهن يتمترس وراء المؤسسات التي تسحب منه القدرة على التفكير المناقض للوضع القائم
back to top