«الحفظ» الذي ينكره التربويون

نشر في 12-04-2019
آخر تحديث 12-04-2019 | 00:11
 د. محمد بن عصّام السبيعي سل من تشاء من مثقفينا اليوم، لا سيما أولئك المهتمين بالشأن التربوي، عن سر تخلف النظام التعليمي، حينها ستتلقى إجابة مبرمجة سلفا، مؤداها أن ذلك يعود إلى اتباع أسلوب الحفظ لا الفهم على حد زعمهم.

هذا الرأي الذي أجد مشقة في استيعابه، ولا أرى من يغالي في ترديده سوى مثقفي العرب، يطمس في الحقيقة، بل يسخف إحدى أهم ملكات طلاب العلم في تحصيل المعارف، وهي ملكة طالما، دون مبالغة، تفاوتت منازل أهل العلم بتباين تمكنهم منها. إذاً ما الذي يمنع حافظا من الفهم؟ هذا ما لا يجود مناوئو الحفظ بإجابة عنه.

واستطرادا يجوز لنا التساؤل: أنى لذي فهم من مقدرة على التوثق من علمه وثقفه دون مهارة حفظ واستذكار، بل أنى له ذلك دون تطوير تقنيات للحفظ؟

فأنت إن استهللت بأدوات تلقي العلم، أي تحصيل اللغات، فأنت أمام بناء أشبه بكائن حي تطور عبر أزمة سحيقة واستوعب في طياته كثيرا من مؤثرات، ولذا فأن يكون تعلم لغة مختزلا في مفتاح أو معادلة بمجرد تطبيقها يتيسر للمرء التحدث بها كما أهلها أو على نحو مقارب، لا وجود لمثل هذا، فدون ملكة لحفظ مفردات وتعبيرات كما هي لن يتيسر لأي متعلم يريد أن يتوسل لغة ما مركب لمخر عباب علومها. أجل أمكن مع تطور الدراسات اللغوية إماطة اللثام عن كثير من الانتظام، أي عن قواعد نحو، لكن وجود القاعدة النحوية لا يعني البتة غياب ما يخرج عنها من شواذ، ولذا لا محيص من الحفظ، أضف إلى ذلك أن القواعد تستدعي حفظاً لها كما هي، فأحرف الجر وأخوات كان والأفعال الخمسة في اللغة العربية لا بد من قدرة على استظهارها، وكذلك الأفعال القياسية وغير القياسية في لغات أجنبية لا تنطوي على ثمة منطق بل هي هكذا لا مفر أيضا من حفظها. هذا على صعيد الاستخدام الشفهي للغة أما إذا انصرفت إلى الجانب الإملائي، أي الكتابة، فستواجه بمعرفة لا يجدي معها سوى الحفظ، فكتابة أي من لغات العالم لا تتساوق بحسب قاعدة جامعة مانعة، ولعل أشهرها في خروج كتابتها عن القواعد هي ما يروج لها أنها أيسرها أي الإنكليزية، لذا فمن يقلل صادقا من ملكة الحفظ فلا بد أن يكون صاحب حظوظ متواضعة في تعلم اللغات، وحتى إن مكنه تواضع مهارته في الحفظ من تعلم لغة، فإن قدرته على التعبير هي بلا ريب أقل جمالا وإمتاعا من زميل له يدخر ذخيرة واسعة من مفردات وأساليب تعبير.

وعلى منوال اللغات يبدو كذلك شأن تحصيل علوم يتبوأ فيها تاريخ الظاهرة قيد البحث دورا بارزا، ونعني بذلك علوم الإنسان والاجتماع، فشأن هذه لا تملك خاصية التجريب المعملي كما في علوم الطبيعة، ولذا يبدو تاريخ ظاهرة اجتماعية، وظروف نشأتها، وتداعياتها وما يماثلها من ظواهر مقارنة، يبدو مختبرا للملاحظة، وهنا تتجلى الأهمية الحاسمة لملكة الحفظ في تزويد الباحث بأمثلة مفيدة من التاريخ أو من ثقافات موازية، كما تنشط ما يختزن من معارف الماضي والتاريخ المعاصر بوابة لربط أوسع للظواهر مما يمهد السبيل إلى استنتاجات فذة على طريق بناء النظرية، فمن يستطيع اليوم الحديث عن تطور الأدب العربي دون معرفة بأشعاره ومناسباتها؟ وليست المعرفة هنا سوى الذاكرة الفذة المحيطة بما خلفه العرب من آثار أدب، أو من ذا يقدر اليوم على إبداء رأي مفيد لتطور النظرية الديمقراطية دون إلمام بالفكر السياسي الغربي منذ الإغريق؟

وكذلك الحال، وإن كان على نحو أقل في علوم الطبيعة، أي تلك التي لا تؤدي إحاطة بتاريخ العلم ذاته أهمية في تحصيل أحدث معارفه، فإليك الرياضيات مثلا؛ هل يتسنى تذليلها دون حفظ لجدول الضرب؟ وأي مقدرة للمتعلم تتضاعف بزيادة ما يحفظه من جداول أخرى؟ ثم ألا يجري حفظ كثير من القوانين الرياضية من متعلميها دون دراية لهم بما يكمن خلفها من منطق، أو بالكيفية الأولى لصياغتها؟ والحق أن فضل حفظ جدول الضرب وما يتيسر من القوانين الرياضية لا يقتصر على متعلمها بل يفيد منه رجل الشارع أيما إفادة، فكم تتيسر حياة الفرد ويعلو مستوى جودتها بتمكنه من تلك المهارات، فإن إحاطته بمبادئ الحساب وتقنياته وحفظ جدول الضرب والقوانين الرياضية قدر المستطاع قمين بأن يوفر عليه عناء كثير من الجهد وتبديد الوقت في احتساب ما يصادفه أو يعوزه في أعماله من مقادير ومساحات، بل أي إنسان هذا يمكن أن يسلك حياة ناجحة وسعيدة دون حفظ وإلمام بالقوانين الرياضية؟ هكذا يتساءل مثقفو اليابان!

back to top