بارباروسا

نشر في 01-02-2019
آخر تحديث 01-02-2019 | 00:02
No Image Caption
وقف شقيقان على جزيرة لسبوس اليونانية ينظران إلى الأفق، وقد شدّ انتباههما ضوء الفجر اللامع من بعيد. كان البحر مصنع العظماء، وكأنه كان مقدراً لهذين الشقيقين أن يُحتفى بهما يوماً ما بوصفهما أسطورتين في عالم البحر. نعم، إن هذا سيحدث، لكن بعد زمن طويل. لم يكن لدى خضر وإلياس أدنى فكرة عن تلك السفن الشراعية العملاقة التي تحمل الكنوز، ولا حتى عن السفن الضخمة المسيرة بالمجاذيف التي ستلعب دوراً استثنائياً في حياتهما، وستغير مجرى التاريخ، وهي تلقي المرساة عند حلول المساء، وتبحر عند بزوغ الفجر. كان شقيقاهما الأكبر سناً، إسحاق وعروج، يعرفان مختلف أنواع السفن التي أبحرت في البحار العالية؛ مثل الزوارق الملكية الطويلة والمراكب الشراعية والقراقير وسفن المجاذيف والسفن الشراعية وسفن الحراقة الحربية، وأحياناً كانا يشاهدان سفن الغلياس الحربية وسفن الغليون الشراعية وهي تبحر، فضلاً عن سفن جديدة في البحر، كما كانا يعرفان أسماءها وألوانها وراياتها وأعلامها التي ترفرف على قمة الصاري أو الشراع الخلفي أو مقدمة السفينة، وأحياناً أيضاً كانا يشاهدان الأسد المنحوت المرعب أو التنانين المثبتة على مقدمة السفينة، وقد حفظا عدد المجاذيف على كل سفينة وعدد الرجال عند كل مجذاف، وعدد الأسطح على السفينة، وكانا يتحديان بعضهما حول من يعرف عدد المدافع المثبتة على كل سطح.

كان كافة سكان الجزيرة يعرفون هؤلاء الأشقاء الأربعة الشجعان؛ فكان اليونانيون والأتراك ينظرون إليهم باحترام شديد، وكانت الشابات مغرمات بهم أيضاً. كانوا أبناء يعقوب أغا، وكان الكثيرون على الجزيرة – سواءً من المسلمين أو المسيحيين، أو التجار في الميناء أو العبيد الذين يعملون في الحقول – يعرفون أن هؤلاء الشبان ذوي الشعور الحمراء، الذين يشبهون بعضهم بشدة في المظهر، سيصبحون ذات يوم ملائكة تحرس الجزيرة. كان يعقوب آغا قد خدم كفارس في صفوف القوات التي فتحت القسطنطينية تحت إمرة محمد الفاتح، رحمه الله. وكان رجلاً وسيماً، ذا شعر كستنائيّ اللون، ومعروفاً بقوته وشجاعته. وقد استقرّ به المقام بعد مدة قصيرة من إنهائه الخدمة العسكرية في لسبوس، وتزوج من أجمل امرأة في الجزيرة. وأنجبا أربعة فتية – يفصل بين كل واحد منهم ثلاث سنوات – ورثوا عيني والدهم الواسعتين والداكنتين، وشعر والدتهم الناعم الأحمر اللون.

أصرّ يعقوب آغا على أن يمتهن أبناؤه حرفة ما؛ فبالنسبة إليه، كانت حياة البحر مستبعدة تماماً. لطالما أخبرهم أن البحر لا يرحم، وأنهم إذا استسلموا لسحره فلن يعودوا. ولم يغفل قط أن يحدثهم عن عدد معاقل القراصنة المتزايد بين الجزر في البحر المتوسط. وذكر لهم كيف أن قائدهم الشهير، جلالة السلطان بايزيد – أطال الله عمره وحكمه – بدأ يتخذ تدابير احترازية لمنع المسيحيين من التجارة بين الجزر، على أمل ملء خزائنه بالإيرادات القادمة من كافة الجزر المتحدة تحت حكمه. وقد أراد أن يرسخ لدى أبنائه الاعتقاد بأنهم يعيشون في حقبة زمنية يجني فيها العاملون في البحر القليل من الأموال.

شعر بقلق شديد، مثل الكثيرين آنذاك، بسبب قوات القراصنة التي كانت تنشط تحت قيادة فرسان رودس وصقلية وجنوة وكاتالونيا، وقراصنة فلورنسا الذين ينشطون عند ثغر مضيق الدردنيل وقبالة جزيرة لسبوس، ويشنون غارات على السفن التركية العابرة. وقد ازداد هؤلاء البحارة المارقون تهوراً وجرأة، فتنقلوا بوقاحة في مياه كافة حكام عالمنا الأقوياء والمبجلين، ونهبوا البلدات الساحلية، واختطفوا الشبان والشابات الأتراك لبيعهم في أسواق العبيد في جنوة. وذات يوم، عندما اجتذب يعقوب آغا اهتمام ابنه خضر، قال:

«يا بنيّ، عندما يتمنون أن تأتيهم الرياح فإن العواصف ستباغتهم في نهاية المطاف، وفي النهاية سيتصدى شخص ما لهم ويضع حداً لهذا الإجرام».

ومثلما كان الحال في الجزر الأخرى، سارت الحياة على جزيرة لسبوس بهدوء وغالباً ما أطاع الأبناء كلام آبائهم. اتبع ابن يعقوب البكر، إسحاق، نصيحة والده وأضحى نجاراً بارعاً بل وافتتح ورشة صغيرة. أما الابن الأصغر، إلياس، فقد حلم بأن يصبح إماماً فشرع في حفظ القرآن الكريم. وبالنسبة إلى خضر، فقد كان من المقدر له العمل في صناعة الخزف، أو بالأحرى هكذا تمنى والده. أرسل ابنه للتدرب تحت يد أشهر خزّاف في الجزيرة، وناشد جماعة المصلين في المسجد بالدعاء لابنه بقبول العمل في حرفته الجديدة. لكن ابنه الثاني، عروج، لم يكن مقدراً له طاعة والده. فقد انتقل من مهنة إلى أخرى، مما أثار سخط والده، ثم اختار في نهاية المطاف أن يقيم في الساحل حيث قضى الليل بعيداً برفقة البحارة. ولزيادة الطين بلة، فقد توقف عن الذهاب إلى المسجد. ونادراً ما كان يعود إلى المنزل أيضاً. الأمر الذي جعل يعقوب آغا محبطاً وهو الذي كان يعقد آمالاً كبيرة على ابنه عروج، فقد كان يأمل منه أن يصبح قدوة لأشقائه الأصغر.

ذات يوم، كان الناس على الجزيرة يتحدثون عن عروج. وكانت الشائعة تقول إنه قد اشترى سفينة شراعية لبدء حياة جديدة في البحر. وقد بلغ الأمر ببعض الناس أن قالوا إنه بات قائداً على ثمانية بحارة وأربعة وعشرين من العبيد للتجذيف، وكانوا ينادونه بالريّس، أو القبطان. لكن الناس كانوا يحسدونه كثيراً بسبب معرفته بأمور البحر والسفن التي تبحر فيه. وكان شباب الجزيرة، على وجه الخصوص، يكنون احتراماً شديداً للبحارة ولأولئك الذين يتقنون لغة البحر.

وهكذا، وعلى الرغم من أمنيات والده، أصبح عروج قبطاناً ذا شأن خلال عام. وسرت شائعة تقول إنه قاد ثلاث سفن شراعية وأبحر في المياه المفتوحة الخاضعة لإمرة قائدنا العظيم السلطان بايزيد، سلطان السلاطين، حاكم جهات العالم الأربع، أدام الله عزه، وأنه بات يحفظ البحر المتوسط عن ظهر قلب. كان يعود إلى لسبوس بين حين وآخر، وبعد أن يرسو بسفنه في الميناء، كان يمشي بثقة على الطريق الحجرية المؤدية إلى وسط البلدة كقبطان حقيقي ويقبّل يد والدته، وذلك دون أن يراه والده بطبيعة الحال، أو هكذا ظن...

أقام عروج مأدبة لأشقائه الثلاثة هذه المرة الذين كانوا يفرحون دائماً بتسلم الهدايا من شقيقهم الأكبر، والاستماع إلى حكايات عن مغامراته في البحار العالية. وأحياناً كان عروج يصطحبهم سراً في وقت متأخر من الليل إلى إحدى سفنه، ليبحروا معاً تحت ضوء القمر البدر.

ذات ليلة، اصطحب عروج كلاً من خضر وشقيقه الأصغر في رحلة ممتعة، وبينما كانوا يجلسون معاً عند دفة السفينة، أخبرهم بقصة لم يخبر أحداً بها من قبل، قصة لا تشبه أي شيء أخبرهم به والدهم على الإطلاق. كانت قصة تيزوس، نجل بوسيدون. فعندما كان تيزوس في السادسة والعشرين من العمر، كان والده يحكم منطقة بحر إيجة، وبعد استيلائه على أحد المعاقل في جزيرة كريت، حشد قواته واستولى على منطقة البحر المتوسط بأسرها. كان خضر على علم بأن شقيقه يبلغ السادسة والعشرين من العمر أيضاً، وأنه خلال رحلاته من الجزر إلى الإسكندرية وموانئ سوريا المختلفة لم يقتصر نشاطه على شراء وبيع الزيتون والصابون والخشب والجلود، وإنما أيضاً كان يستمع إلى حكايات عن أبطال البحر. في تلك الليلة، ظل خضر مستيقظاً متوثب المشاعر، حيث تخيل نفسه يلعب دوراً في القصة الأسطورية التي تقع أحداثها في كريت، وقد جفل عند تفكيره في الساحرة الشريرة ميديا التي لا تُقهر.

عند الفجر، وجد خضر نفسه ينظر صوب كريت. كان يتخيل الآن أن شقيقه عروج هو تيزوس، وكان بوسعه رؤية السنوات القادمة في الأمواج المتكسرة على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، ويتخيل نفسه وقد أصبح قبطاناً يقف معتدلاً على السطح الأعلى لسفينته الخاصة، وهو يمسك بجدار السفينة، ويتفقد مثبتات المرساة ويربط العُقد لها. في ذلك الصباح، كانت هذه هي المرة الأولى التي يحلم فيها بأن يخوض مغامرة أسطورية؛ مغامرة يتردد صداها عبر منطقة البحر المتوسط بأكملها. كان خضر قد وُلد في جزيرة لسبوس، وكان ابناً لفارس عضو في فرقة المشاة في الجيش العثماني (الإنكشارية) هو يعقوب أغا، وكانت قصصه الأسطورية في البحر المتوسط على وشك أن تبدأ، وأولئك الذين حلموا بالرياح سيحصدون العواصف على متن سفينة شراعية، وستجري مقارعة الطغاة بالسيوف، ومنذ تلك اللحظة سيعرفه العالم بالريّس، بارباروسا خضر خير الدين الريّس.

* * *

أُدعى سيدي ألكالا، لكنهم ينادونني أيضاً بسيد مراد. لم أكن على استعداد لكتابة هذه القصة إلا بعد سنوات من المدة التي قضيتها برفقة بارباروسا خضر خير الدين الريس، كي أدوّن كل ما رأته عيني وكل ما سمعته أذني من الآخرين. كان صاحب الجلالة الإمبراطورية، وسلطان السلاطين سليمان العظيم – أدام الله حكمه – قد استدعى خضر الريس ذات مساء في أواخر شهر أكتوبر وقال:

«اسمعني يا عزيزي خير الدين؛ أريد منك أن تكتب قصتك مثل كل كتب التاريخ الأخرى التي حكت تجاربنا ومغامراتنا. وما دفعني إلى طلب ذلك منك هو أنك تتذكر كل شيء بشكل جيد للغاية، فذاكرتك قوية. واسرد في الكتاب كل ما عايشته في حياتي في البحر والبر بشكل كامل وبلا تزييف، وبتنظيم دقيق وصادق، حتى تأخذ الأجيال القادمة حذرها ويكون أمامهم مثال ليحتذوا به. اكتب عن شؤون الملك كارلوس وعن شؤوني والدور الذي لعبتَه أنت في صراعنا».

حينئذٍ قال خير الدين باشا «أمرك يا جلالة السلطان، ولكن من أكون أنا – عبدك المتواضع – كي أدوّن تاريخاً عظيماً كهذا! إن تذكري ملاحم ماضيّ المأساوية سيقلّب عليّ المواجع. ولكن لا يمكنني رفض طلبك يا جلالة السلطان. لذا فبإذنٍ منك ومباركتك أوصي بأن تُسند المهمة إلى قبطاننا وكاتبنا سيد مراد. إنه صديق عزيز، ويعرف كل أسراري، وأخٌ لي بعد أن فقدتُ شقيقي. لقد كان أكثر من وثقت فيهم في رحلاتنا البحرية طوال تلك السنوات. وهو يعرفني حق المعرفة. قد أنسى أنا شيئاً، أما هو فلن يفوته شيء. وعليه إذا أمرتَ بذلك، سأطلب منه كتابة القصة بدلاً مني يا جلالة السلطان. دعه يدوّن القصة بأكملها بصدق ومن أعماق قلبه. ولعله سيستشيرني عند الضرورة وحتى يسمع بما لم يحضره بنفسه كي يدوّن كل شيء مثلما حدث بالضبط. وسيكتب قصته أيضاً».

وهكذا حظي خضر خير الدين الريّس بمباركة السلطان العظيم، وكُلفت بتدوين القصة، وذكر كافة ما يمكنني تذكره وما عرفتُه من الريّس، ومتى ما أخطأتُ لم يفشل في تصحيح خطئي. انتهيتُ من كتابة القصة في إحدى الأمسيات في أواخر أكتوبر من عام 1542 ميلادياً، وكانت المسودة النهائية الأولى جاهزة بعدها بشهر. ستقرأون فقط جزءاً مما مررتُ به في صحبة بارباروسا خير الدين باشا، لكنه كافٍ كي تعرفوا الدور الحقيقي الذي لعبه في صنع التاريخ. وستعرفون أيضاً – عبر قصتي – معاناتنا الشخصية، والقصص التي شكلت مصير أولئك الذين جعلوا البحر المتوسط وطناً لهم.

back to top