تغريبة وطن

نشر في 17-11-2018
آخر تحديث 17-11-2018 | 00:00
No Image Caption
عبر الجدار الزجاجي لقاعة المطار الفسيحة، كانت تحدّق إلى المجهول. لم تنتبه إلى زوجها وولديها والعدد الكبير من الجيران والأصدقاء المتشحين بالسواد، والذين تبدو على وجوههم الشاحبة معالم حزن شديد يسرق من عيون البعض دمعة ويخنق في حناجر الآخرين غصة.

هي لم تكن هناك. كان هناك جسمها الملتحف بالسواد وعيناها المسمّرتان تراقبان حركة تحميل الشحن في مستودع الطائرة الضخمة التي ستقلع بعد قليل من «ديترويت» حاملة ما تبقى من حطام روحها في تابوت خشبي أبيض، أرادت أن تراه وهو يدخل جوف الطائرة، وكأنها تطمئن إلى وجودهما معاً على متن تلك الرحلة.

الجميع حولها يعيش رهبة اللحظة. لم تمارس تلك الطقوس المعتادة من صراخ وعويل على ابنها القتيل. كانت حزينة بصمت مربك. وحده زوجها أمسك بيدها، ودموعه لا تنقطع، يرفع بين الفينة والأخرى رأسه ويتنهّد بحرقة ثم يسترق النظر إلى الخارج علّه يلمح نعش ابنه.

مع انطلاق صوت المذياع المعدني معلناً رحلة الخطوط الجوية الهولندية (كي.أل.أم) إلى أمستردام، وقفت، فوقف الجميع من حولها وانهمرت الدموع أكثر غزارة. نادت ابنها الكبير عليّ «كون ع قد المسؤولية، اهتمّ ببيك وخلّي ذكرى أسبوع خيّك تكون مرتبة ومنظّمة، ما تنس إنه تنعي أساتذته ورفقاته... وما تنس تحط إكليل ورد كبير على المنصة بالمسجد حدّ صورته»، كان إبراهيم يستمع ويبكي بصمت.

في البهو الطويل الذي يصل بين صالة المغادرين وبوابة الطائرة مشت وكأنها تسير في نومها. أخبرها قاسم، موظف شركة الطيران، أن النعش أصبح في جوف الطائرة، ويمكن أن تراه في أمستردام، إن لم تضعه الشركة في صندوق خاص حرصاً على مشاعر الركاب.

ودّعها بعد أن أوصى كبيرة المضيفات بها وخرج مسرعاً بينما كان الركاب يدخلون الطائرة بصخب وجلبة.

استقرت في مقعدها والدموع تترقرق في عينيها بصمت وحزن. استمر توافد الركاب كباراً وصغاراً، أناس يحاولون وضع حقائبهم في الصناديق المخصصة وآخرون ينتظرون خلو الممر الضيق ليصلوا إلى مقاعدهم ويتراصفوا جلوساً وكأنهم يستعدون لالتقاط صورة رسمية... أمهات يلاحقن أولادهن بصوت مرتفع ليبقوا في مقاعدهم، ومضيفات ومضيفون يجهدون في التنقّل وسط هذا الزحام الطارئ ليرشدوا راكباً إلى مقعده أو يساعدوا آخر على وضع حقيبته.

كانت الضجة تتلاشى تدريجياً ليعود صوت الموسيقى الهادئة داخل الطائرة.

شعرت بالاختناق، وضعت كفها على صدرها وكأنّها تهدئ من تسارع نبضات قلبها. «وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان...»، من أين يأتي الشعراء بكلام ينطبق على لحظة محددة! لم تتمكن من كتمان شهقة الدمع التي فاجأتها، أسندت رأسها إلى شباك الطائرة واستغرقت في بكاء حارق.

هي الآن على متن طائرة غريبة تحملها في الطابق الأعلى وتحتها في داخل الطائرة نعش يحمل جثمان ابنها الذي كان سيبلغ الثامنة عشرة من العمر بعد أسبوعين.

هكذا عادت إلى لبنان. حاملة تابوت ابنها الذي أرادته أن يعيش هناك كما يشاء، بلا عقد ولا خوف ولا ثأر، أن يكون حراً في تفكيره وسلوكه وخياراته، أن يستقبل الحياة، وأن يحيا وكأن لا نهاية للكون.

حطت الطائرة في بيروت بعد منتصف الليل، ومن مكتب الأمن العام افترقت عن بقية المسافرين إلى قسم الشحن لترافق نعش ابنها. ترك لها الضابط البعلبكي المكلف من العائلة استقبالها ومتابعة الإجراءات المطلوبة، حرية البقاء أثناء تفتيش التابوت أو الانتظار في الغرفة المجاورة، شارحاً لها أنه بذل كلّ ما بوسعه للحفاظ على حرمة اللحظة... «بس نحنا مثل ما بتعرفي من بعلبك... وكلنا متهمين حتى يثبت العكس... بتمنى إنه تتفهمي موقفي».

طلبت من ضابط الجمارك بأدب قبل أن يغلق النعش أن يسمح لها بتقبيل ابنها، فهي تريد أن ترحب به في لبنان. أشاح الضابط بوجه محتقن ولم يتمكّن الضابط المرافق من حبس دمعته. أمسك بيدها وطلب من العسكريين الموجودين حمل النعش إلى الخارج، حيث كان العشرات من أقاربها وجيرانها في عين التوت ينتظرون في مأتم مهيب يتقدمه خالها الذي صرخ عندما رآها بأعلى صوته «يا حيف ... يا حيف عالشباب... يا حيف يا هدى»، وارتفع صوته بالبكاء مردداً «أهلاً يا عمري... أهلاً يا حبيبي... أهلاً يا عريس». عمّ البكاء بهو المطار وانضمّ الجميع إلى المأتم المرتجل وبكوا.

أصرت هدى على أن تكون في سيارة الإسعاف التي تقل الجثمان. عندما فشل خالها في إقناعها، استقل السيارة إلى جانبها وانطلق الموكب نحو عين التوت. كان الصمت داخل السيارة مطبقاً، فقط صوت عبد الباسط عبد الصمد يتلو آيات من القرآن تتردد في كل مأتم في البلدة. فجأة سألت هدى خالها إبراهيم «بعدهم بيعملوا ندبة للشباب بالضيعة؟».

ارتبك خالها وحدّق إلى عينيها قائلاً: «يا خالي الحرب ما خلت شي من حرمة للموت... بين الحرب وبين الاجتياح صار يللي بيندفن بكامل جسمو محظوظ...».

تتذكر هدى مشهد الندبة الصباحية والمسائية لنساء البلدة، وهن يتجهن، بثيابهن السوداء ومناديلهن البيضاء، في الأيام الثلاثة الأولى على وفاة شاب أو رجل مرموق، إلى جبانة البلدة فيما يرددن بأصوات متهدّجة وحزينة وبإيقاع متناسق يصل صداه إلى أرجاء الضيعة كافة... «سلامتك من نومة الجبانة... سلامتك يابو عيون نعسانة»، و«غيبتك غيبة طويلة ضاع حلم الصبر منا... قلوبنا صارت ذليلة بس وجهك غاب عنا».

«توكلي على الله يا هدى»، قال خالها بحرقة. «هلق ما عاد شي يفيد يا خالي... لا الندب ولا الحدا ولا النوبة ولا المونسة. كل شي صار بإيد الله سبحانه تعالى... بعرف إنو الحكي هلق ما بيفيد وكل الشكليات ما بتخفف من الوجع، خصوصي وجعك كأم، بس بدك تسلمي أمرك لصاحب الأمر... الله يبرد قلبك».

أبلغها خالها أن الدفن سيكون بعد صلاة الظهر في اليوم التالي، وأن قبر ربيع سيكون ملاصقاً لقبر جدها مصطفى. لم تنطق هدى بحرف حتى وصلت إلى البيت في عين التوت. لا شيء تغير في بيت خالها. كانت تلاوة عبد الباسط سبقت الجميع إلى هناك، وكان على هدى أن تمضي ليلتها إلى جانب ابنها لا يقاطعها شيء سوى أفراد عائلتها الذين جاؤوا تباعاً لتعزيتها.

لم تنم هدى لحظة واحدة، كان خالها وأبوها يجلسان قبالتها بينما أمها وعمتها - زوجة خالها - تحيطان بها من الجانبين، ترجوانها أن تأكل شيئاً، لكنها لم تطلب إلاّ بعض الماء. وما إن بزغ الفجر، بعد ارتفاع الأذان، حتى طلبت من أبيها وخالها مرافقتها إلى الجبانة لترى حفرة ابنها وترتّبها. حاول أبوها ثنيها عن عزمها قائلاً لها بصوت هادئ : «هيي حفرة حد قبر جدك...»، لم يدعه خاله يكمل حديثه فقاطعه بالقول: «إنت خايف عليها من هالمنظر بس هدى قوية...». نادى أولاده وأولاد إخوته قبل أن يذهب وقال: «افتحوا الأبواب للناس باشروا إعداد الغداء». قال الخال لهدى وهما يمشيان إلى المقبرة إن نبأ وفاة ربيع أذيع من المسجد، وإنّه وضع أيضاً إعلاناً في صحيفة بيروتية ليصل الخبر إلى الجيران والأصدقاء في المدينة.‎ ‏

back to top