منبوذ الجبل

نشر في 10-11-2018
آخر تحديث 10-11-2018 | 00:00
No Image Caption
في الليلة الأخيرة من شهر مارس من عام 1983م، كانت صرختي الأولى تشق فضاء الجبل، ومنذ تلك اللحظة حملت هذا الاسم «أحمد بن يحيى الحداد»، في الحقيقة كان هذا الاسم معداً لي سلفاً، فجميع من في البيت اصطلحوا على أن يكون «أحمد» هو اسم القادم الجديد. بعد تلك الصرخة بعشرة أعوام، كان أبي يحملني بين ذراعيه، مهرولاً، وهابطاً بي ذلك الجبل.

كانت رائحة الشواء تتصاعد من أصابع يدي اليسرى، ثلاثة أصابع محترقة وجسد يرتعش، هذا ما خلفه التيار العنيف من خسائر!

لم يدر بخلد أمي وهي تطلب مني أن أدخل المقبس الكهربائي في الثقبين الأسودين الغائرين في الحائط، أنني سأرتمي أرضاً بقوة هائلة! ارتفع أذان المغرب في اللحظة التي ارتطمت فيها بأرض الصالة المفروشة ببساطٍ كان مبتلاً حينها وفي يدي السلك الكهربائي المخدوش!

كنت في العاشرة من عمري حين أوشكت أن أغادر الحياة من خلال ذلك الشبح الغريب، الذي بدأ في امتصاصي عبر فمه المفتوح، والكاشف عن أسنان معدنية حمراء، جاذباً روحي بشدة لتتلاشى في الثقبين الأسودين! لم أشعر بوجوده إلا حين طرحني أرضاً، وظل ممسكاً بيدي، كان جسدي ينتفض من قوة التيار، وأمي قد اعتراها الخوف والذهول، وشلّ حركتها، تنظر إليّ ولا تدري ماذا تصنع، ولا أدري كيف انطلق صوتٌ من أقصى حنجرتي صارخاً بأمي، أن تسحب السلك من الثقبين الأسودين، وبذلك عدت إلى دائرة الروح بعد أن كنت على وشك مغادرتها!

لم تكد أمي تفعل ما طلبته منها، حتى انكبت عليّ تحتضنني وتجمعني إليها، كي تعيدني إلى الحياة مرة أخرى، كما جئت في أول مرة.

بين لحظتين ... اللحظة التي أوصلت فيها المقبس بالتيار الكهربائي، وتلك التي كانت أمي تقطع فيها التيار، توقف الزمن برهة لأشاهد شريط حياتي، ولكنها لم تكن الحياة الماضية هي ما كنت أشاهده وقتها، -فما الذي رآه أو عاشه ابن العاشرة في ذلك الحيّ الهادئ على سفح جبل؟ - وإنما كنت أشاهد شريط حياتي القادمة. كنت واثقاً من أنني سأنجو، وسأعيش.

سرعان ما تسامع الجيران بالخبر وتناقلوه، ووصل إلى أبي وهو يصعد الجبل عائداً للتو من عمله، فانطلق لا يلوي على شيء، «أحمد احترق بالكهرباء»، بهذه الصيغة وصله الخبر كما انتشر في الحارة بأكملها عبر بيوتها المتلاصقة في حضن الجبل.

بعد دقائق من صيحة أمي! كان أبي يحملني بين ذراعيه. يسرع حيناً ليسعفني إلى المستشفى، ويبطئ حيناً آخر خشية التعثر والسقوط بي أثناء نزوله من «جبل الشراشف».

خيط حياة كان يتدلى من سقف الغرفة، فتعلقت به وأنا ممسكٌ بكتاب!

كان يمكن ألا أكون أنا، وكان يمكن ألا يكون ذلك الكتاب! ربما كان غيري هو المعني بتلك الحياة، وهناك احتمالٌ آخر، وهو أنه كان يمكن ألا يكون هناك أحد! ومن ثم فإن تلك الحياة كان يمكن ألا تعاش.

في وهـمٍ عبثي كهذا كان من المستحيل أن يُخطّ حرف أو تُنشر صحيفة، ولكن اللعبة تبدأ هكذا دائماً، وبعكس ما نتصور. نتخيل شيئاً، فيوجد ذلك الشيء، أو نوجد نحن في ذلك الحيز المتخيّل. هكذا ببساطة متناهية، الوجود بسيط إذن، يكفي أن تفكر لتكون موجوداً، أليس كذلك يا سيد ديكارت؟ ولكنه بالنسبة إليّ يكفي أن أتخيّل لأكون موجوداً، التخيل هو الجزء المهم من اللعبة، ما نتخيله هو وجود سابق لوجودنا، وما نرويه هو حياة سابقة نعتني بتفاصيلها في حيوات لاحقة، وفيها يتحول الزمن الأول في أصابعنا «المحترقة أحياناً» إلى عجينة سهلة التشكل، ولكني سأستدرك شيئاً هنا، إنها سهلة التشكل بالنسبة إلى زمن التدوين، ولكنه تشكل مرهق بالنسبة إلى زمن التكوين، تتشظى على إثره الذات الراوية، «فثلاثة أصابع تمسك بالقلم، ولكن الجسم كله يعمل ويتألم» كما صرّح بذلك أمبرتو إيكو ذات مرة.

«عمر الشقي بقي». هذه أول جملة قالتها إيمإن، بعد أن قصصت عليها حكاية أصابعي المحترقة، ونحن في مطعم «عمو حمزة»، قالتها، وابتسامة ممزوجة بحزن طفيف ظهرت على وجهها في تلك اللحظة، ولمسات حانية من يدها.

كان ذلك أول لقاء يجمعنا بعيداً عن أعين الآخرين، كنت أشير بيدي اليسرى أثناء الحديث، ولم تكن أصابعي تنبسط بشكل كامل بسبب تآكل الجلد وانكماشه في مكان الاحتراق. لاحظت إيمان ذلك، قلت لها: «ومع ذلك فأنا أستطيع الاعتماد عليها مثل أختها تماماً»، وضممت يدها بين يديّ، فافتر ثغرها عن ابتسامةٍ عذبةٍ. سحبت يدها من بين يديّ برفق، واحتضنت يدي اليسرى ثم بسطتها وبدأت تتحسس بإصبعين من أصابعها الأثر المتعرج في أصابعي. ذكرتني حركتها هذه بما كانت تفعله فاطمة، فكثيراً ما كانت تأخذ يدي بين يديها وتفعل الشيء ذاته.

فاطمة هي الابنة الوحيدة بين ثلاثة أبناء، لم تكن الرابعة في الترتيب بل كانت الثالثة أي قبلي أنا رابع القادمين إلى الحياة في ذلك البيت الصغير. ولأني قدمت إلى الحياة بعد بنت فقد كنت مديناً لهذا الوجود بعناية امرأتين بي، أمي وأختي، ومع أنها لم تكن تكبرني سوى بعامين، إلا أنها كانت كافية لتتخذني طفلها. البنات أمهات لإخوتهن الصغار، وربما الكبار أيضاً.

نشأتي بين امرأتين، هي ما أبعدتني قليلاً عن إخوتي الذكور، ومنحت حياتي شكلاً آخر يختلف عن الحيوات المحتشدة في منزلنا. وهناك أمرٌ آخر كان له النصيب الأكبر في تعميق الفجوة التي تفصلني عن أخويّ بالذات، ولكني سأردم هذه الفجوة الآن، متناسياً ذلك الأمر، لأرتفع ببصري إلى الأعلى، حيث الحياة المتدلية من سقف حجرتي.

كنت منهمكاً في القراءة، في الحجرة الأرضية السماوية اللون، ولم يكن فيها سوى سرير واحد، يحتل الزاوية اليسرى منها، وعن يمينه تنسدل ستارة زرقاء متموجة، تخفي خلفها نافذة زجاجية كبيرة وعلى امتداد الجدار المقابل يقف دولاب خشبي قد تراصت على رفوفه الكتب والمجلات، وفي المساحة الخالية بين الدولاب والسرير مع انحراف بسيط إلى اليمين تنتصب طاولة صغيرة بنية اللون ذات درج واحد، حملت فوقها بعض الكتب، وحاسوباً محمولاً، وكوب شاي بارداً ممتلئاً إلى نصفه، وبين يدي الطاولة يوجد كرسي وحيد.

في تلك الليلة وعلى ذلك السرير، استطعت أن أنفصل عن جسدي وأتعرف على رائحته، ومنذ التقطت خيط الرائحة انطلق أنفي يتتبعها في أنحاء الجسد، راحة كفيّ، أعلى صدري، إبطي، وكل ما استطاع الوصول إليه هذا المنقب عن آثار ذاتي المطمورة في تراب الروح.

في البدء اصطدت خيط الرائحة وأنا أصطدم بجملة في ذلك الكتاب! ثم أخذت أتتبع ذلك الخيط وأرتفع معه حتى هبط كثيفاً رائعاً ذلك العبق البشري، كضباب يعوق رؤية ما سواه.. لقد كنت أصطدم برائحتي في كل منحى من ذلك الجسد.

back to top