الفرزدق وزين العابدين والضمير الحيّ

نشر في 12-10-2018
آخر تحديث 12-10-2018 | 00:08
 أ. د. فيصل الشريفي هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ

وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ

هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ

هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ

بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا

وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَن هذا بضَائرِه

العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ

كِلْتا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَا

يُسْتَوْكَفانِ وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ

سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ

يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ

حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ إذا افتُدِحُوا

حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ

ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ

لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ

عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ فانْقَشَعَتْ

عَنْها الغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ

إذ رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها

إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ

يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِه

فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ

بكَفّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ

من كَفّ أرْوَعَ في عِرْنِينِهِ شمَمُ

حتى وصل إلى هذه الأبيات التي أظنها كانت وراء سجن الفرزدق وحبسه بين المدينة ومكة المكرمة:

من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ

كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ

مُقَدَّمٌ بعد ذِكْرِ الله ذِكْرُهُمُ

في كلّ بَدْءٍ وَمَختومٌ به الكَلِمُ

إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ

أوْ قيل من خيرُ أهل الأرْض قيل همُ

هذه القصيدة ألقاها الفرزدق أمام الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بسبب استنكاره على الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب تنحّي الناس عنه ليستلم الحجر الأسود، وذلك يعود لهيبته بعدما عجز وهو الحاكم من الوصول لكثرة تزاحم الناس في موسم الحج وعدم اكتراثهم به، حيث كان الفرزدق حاضراً ذلك المشهد، فأنشد قصيدته التي بسببها غضب هشام فأمر بحبسه بين مكّة والمدينة لكنها ظلت تضيء صفحات التاريخ.

هذه القصيدة لم تكن قصيدة عادية، لا من حيث جمال الكلمات ولا من حيث غزارة المعاني فقط، بل لما حملته من رسائل وحجج بالغة الدقة في الوصف، وقول الحق، ورغم معرفة الشاعر بتبعات ما قام به، لكنه لم يكترث ولم يبالِ بالعواقب، لذلك ظلت هذه القصيدة شامخة تصدح بالحق إلى يومنا هذا.

المفارقة ومن خلال تتبعي لسيرة الشاعر الفرزدق (الهمام بن غالب بن صعصعة) الرجل المحسوب على البلاط الأموي، والذي لم أكن لأتوقع ولو للحظة أنه سيقول هذه الأبيات، وأمام رأس هرم السلطة وهو يعرف النتيجة سلفاً، لكني استدركت هوى نفسي وآمنت بأن الفطرة التي فطر الله عليها الناس تظل حاضرة وحية إلا عند أولئك الذين طبع الله على قلوبهم.

ودمتم سالمين.

back to top