كتب للتعمية لا للبصيرة

نشر في 26-08-2018
آخر تحديث 26-08-2018 | 00:07
 فوزي كريم حركة النقد في الفكر والأدب تبدو لي الآن أنها كانت سليمة، من حيث تواصلها مع القارئ، في النصف الأول من القرن العشرين الغربي.

أتذكر ترجمات كتب النقد التي صارت تصلنا في الستينيات، كم كانت ملهمة. ضرورة تواصل النص مع القارئ تلاشت في الغرب منذ الخمسينيات، بعد شيوع تيارات "ما بعد الحداثة". الموجة وصلتنا في الثمانينيات، فصارت كتب نقدها الفكرية والأدبية مُلهمة بصورة غير مسبوقة.

العالم العربي دخل في أعتى مرحلة تعمية على كل مستويات حياته؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية. مثقفو الجيل شدتهم الحاجة إلى تعمية ثقافية ملائمة، عثروا عليها بيسر في تيارات "ما بعد الحداثة" النقدية الغربية المستجدة، فصارت كتبها تُترجم بلا حساب، حتى لتبدو في عين غير العارفين وكأنها كتب النقد الفكري والأدبي الغربي الوحيدة. دور النشر تحرص على التعمية فيما تنشر، بدءاً من عنوان الكتاب.

الظاهرة تذكّر بما كان يحدث، يوم هيمن فكر اليسار الماركسي وأحزاب اليسار على الحياة الثقافية. دور النشر آنذاك لم تكن تشجع على الترجمة إلا ضمن هذا الحقل. حتى خيِّل لنا أن النقد الفكري والأدبي الغربي يساري بجملته. تعتيم جعلنا على جهل مطبق بمفكري وأدباء التيارات الأعم. حتى الوجودية لم تُقبل علينا بخفة طائر إلا حينما تزاوجت مع الماركسية. وكنا نجهل، وربما نتجاهل، أن كل هذا الغذاء الدسم إنما يتم في المطبخ الباريسي، وفي ملحقه الصغير الأميركي. والمضحك أن الأجيال مازالت تجهل، وربما تتجاهل، أن "تيارات ما بعد الحداثة" الفكرية والنقدية التي أعانتهم في "التعمية"، إنما تتم في مطبخ باريسي وأميركي، لا يشكل إلا ركناً صغيراً من مطبخ الفكر العالمي.

إنني على يقين من أن كتاباً فرنسيين، أمثال: باشلار، فوكو، دريدا، رولان بارت... الخ، لابد أن تصرعهم الدهشة حين يعرفون أن العربية، من دون لغات الأرض، قد ترجمت أعمالهم كاملة، ولمرات عدة، وأن تعمية تمَّت باسمهم على معظم التيارات النقدية التي تملأ رحاب الغرب، وأن هذا الانصراف لهم وحدهم صار يأخذ طبيعة شبه "إيمانية" وعقائدية، حتى صار واحدهم يتصابى تحت ظلالهم، دون أن يفهم ما يرطنون به من إيهامات مُحلقة.

العملية اعتمدت إذن، في المرحلتين، على تكريس الاهتمام لتوجه واحد في الفكر النقدي الغربي، وعلى التعتيم الثقافي الذي شمل الخارطة الأوسع. طبعاً، هناك ترجمات قيمة لكتب نقدية قيمة تنتسب للقرن العشرين، تخرج على حياء بين حين وآخر، وسرعان ما تنغمر في ظلام النسيان. إن أيسر التهم بحقها أنها ذات معنى، وأن معناها يصل القارئ بيسر. إنها تفتح البصيرة، وهذه أولى مخاطرها، في مرحلة سيادة "التعمية".

بين يدي ترجمة رائعة لكتاب رائع (مبادئ النقد الأدبي، مع ملحق لكتاب العلم والشعر) للإنكليزي أ.أ رتشاردز. لم يرد ذكره، على حد متابعتي، إلا في لائحة إصدارات المجلس الأعلى للثقافة. وإصدارات الأخير تحفل بأمهات الكتب في الفكر النقدي، لا يحفل بها أحد، ولا يتأثر بها أحد. وإذا وردت، فبأطروحة جامعية، تشير في الهامش إلى شاهد عابر.

لديَّ حفنة كبيرة من الكتب النقدية، موضوعة ومترجمة، الصادرة حديثاً، أستطيع القول بشأنها إنها "كتب رطانة لا تُقرأ". أقلب صفحاتها، وأقرأ فقرة هنا وفقرة هناك، دون أن أقبض على فكرة واضحة، أو تعبير مؤثر، على الأقل.

القراءة الثقافية لا تعني الإحالة إلى ما هو اجتماعي أو نفسي، وتعرية ما هو مضمر في الجملة الشعرية فقط، بقدر ما تعني أيضا جملة من الإحالات إلى الوجودي والرؤيوي والاستعاري بوصفها مجسات للاختراق، فضلا عن كونها لعبة الشاعر المضادة في استنطاق اللغة عبر البحث عن تمثيلاتها السيميائية في المكان/ المنفى والجسد، وعبر التماهي بشغف التعويض، حيث إن التماهي بين الشاعر والقصيدة هو من قبيل القناعة بأن الشعر يعوض عن المشاركة في أي فعالية سياسية خارجية.

back to top