حبر و ورق

نشر في 06-01-2018
آخر تحديث 06-01-2018 | 00:02
No Image Caption
رحيل ولقاء

الرابع عشر من كانون الأول، 2016.

انتظر صديقي منذ نصف ساعة تقريباً. اتصل ليخبرني بأنه سيصطحبني إلى مكان ما. لم يفصح عن ماهية هذا المكان فأثار فضولي وجعلني أُنهي استعدادي بسرعة لم أعتدها. ترى ما هو هذا المكان؟ فالوقت صباحاً. ليس صباحاً بالتحديد، فالساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً، ولكنه بالنسبة إلى كلينا نحن الاثنين يعد الوقت صباحاً ومبكراً للخروج.

أُمسك فنجان شاي تتصاعد منه الأبخرة، استمد منه دفئاً لا أجده. هاتفي الجوال لا يغادر يدي الأخرى بانتظار أي اتصال أو إخطار من قبل فريد يعلمني بوصوله. فصديقي - ولربما الجميع كذلك - لا يحب الانتظار. يحق لنا أن نكره الانتظار فالوقت هو الأثمن.

أظنه يبالغ بوصفه هذا المشوار بالمهم، فلا شيء مهماً في حياتنا تقريباً. أو لنكن أكثر إنصافاً، لا شيء مهماً في حياتي، ففريد ما زالت لديه بعض الاهتمامات. لا شيء مهماً، هذه هي الحقيقة. حتى الأحداث التي تدور من حولنا وخصوصاً ذلك الاحتفال القاتل والمدمر الذي يجري في سوريا، حتى هذا ما عاد يثير أي اهتمام لدى الجميع، فكيف يثيره لديّ؟ القتيل نفسه، لديه من يبكيه ومن يحتفل بموته. أظن ذلك تعويضاً كافياً له.

يظنني بعضهم ساذجاً، غير متعلم وجاهل. إلا أن الحقيقة على العكس تماماً. الحقيقة باختصار هي أنني غير مبالٍ. ولماذا أبالي بأمور نتائجها محسومة ومعروفة؟ وأي تغيير ستحدثه مبالاتي؟ لقد تركت المبالاة والغضب والاهتمام لأهله. فأنا أكره الادعاء والنفاق والكذب ولن أدعي حزناً كاذباً أو اهتماماً مزيفاً. تركت كل شيء وانشغلت بأموري الخاصة أو لعلي لم أنشغل يوماً بأي شيء. لا أدري، فحتى كلمة انشغلت قد تنطوي على مبالغة ما.

أخيراً، رن جرس هاتفي. رنة وأخرى ثم توقف. هو إخطار بقرب وصوله. الجو عاصف في الخارج، ولطالما كان كذلك في كوانين. رفعت ياقة معطفي لكي أحمي رقبتي، وهرولت نحو سيارة فريد.

- صباح الخير.

ضحك متهكماً:

- أي صباح؟ صار الوقت عصراً.

زخات المطر ترتطم على الزجاج وتتطاير في كل الاتجاهات. وزادت سرعة فريد من سرعة ارتطامها. هذا الجو يناسبني كثيراً، إلا أنه يكون أكثر مناسبة لو أنني مكثت في البيت أستمتع بمنظر المطر والريح من وراء نافذتي.

- يقولون إن هناك عاصفة قوية ستضرب الليلة وفي الأيام القادمة.

- أجل.

- ما رأيك لو نقصد فاريا فنقضي بضعة أيام في أحد فنادقها؟ وحبذا لو حظينا بصحبة جميلة. سيكون لدينا الثلج والنار والوجه الحسن.

ويبدو أن الأمر استثاره فضحك وهو ينظر إليّ تارة وإلى الطريق تارة أخرى. كان ردي باهتاً وبارداً إلى حد الملل. اكتفيت بابتسامة مضجرة وبالكاد تلفظت بـ لا.

- إلى أين نتجه؟

- بعلبك.

- وما الذي سيذهب بنا إلى بعلبك في مثل هذا الجو؟

- لا شيء يدعو إلى القلق.

- لست قلقاً.

- لمشوارنا سببان، أولهما هو أن عبد العزيز صديقي، تعرفه.. الذي حدثتك عنه.. ينتظرنا لتناول الغداء عنده. وثانيهما هو أنه سيأخذنا بعد الغداء إلى مكان يبيعون فيه كتباً مستعملة بأسعار زهيدة جداً. أعلم أنك تحب الكتب وتحب اقتناءها، ومن يعلم فلربما وجدت هناك بعض النسخ النادرة.

خدمة عظيمة وجليلة هذه التي يقدمها إليّ.

- ومن قال لك إنني أريد شراء كتب مستعملة؟ تخرجني في هذا البرد لتذهب بـي إلى بعلبك من أجل كتب مستعملة؟

كان يعلم أنني سأتذمر قليلاً ثم سأذعن وهذا ما حدث بالفعل.

- لن تخسر شيئاً. سنتناول غداءنا وندخن الأرجيلة في المضافة عند عبد العزيز. ستعجبك مضافته كثيراً حيث تنتشر مناقل الفحم النحاسية، والمتكآت والفرش العربية، والحيطان تغص بالأسرجة والأعنّة ولوازم الخيل المصنوعة من الصوف والجلد.

ابتسم وكأنه ذاهب إلى الجنة ثم تابع: «بعد ذلك فالخيار سيكون لك، سنعود مباشرة لو كان هذا خيارك ولن نذهب حيث يبيعون الكتب».

أفحمني بكلامه هذا. فقد اعتدنا أن نقصد أماكن أبعد بكثير من بعلبك، بحثاً عن بعض الملذات. أعترف أنني كنت أتمنى البقاء في المنزل، فمنذ مدة وتحتلني رغبة دائمة بالانعزال، وأحياناً بالرحيل، إلى أين أرحل؟ لا أعلم. ولكم تمنيت لو أنني في هذه اللحظة أجلس على مقعدي بجانب الموقدة، أشرب شاياً ساخناً ولا أعبأ بأي شيء آخر يحدث من حولي. لكم يلذ لي البقاء في قوقعتي من دون أن يزعجني أحد. استسلمت وخضعت، فلا سبيل لدي أمام عناده وإصراره إلا أن أفعل، وآثرت الصمت على المشاحنة من دون طائل.

****

قد يتساءل القارئ: رجل ثلاثيني لا يبالي بأي شيء يدور من حوله، ولا يبالي ولا يهتم بأحد، حياته مملة وفيها من الرتابة والتكرار ما فيها. رجل هذه حياته، فما الذي لديه لكي يرويه لنا؟

الحقيقة هي أنني فعلاً لا أجد شيئاً في حياتي يستحق أن يروى أو قد يجد البعض أي فائدة من معرفته. إلا أنني، وبمحض المصادفة، والتي زجني فيها ودفعني نحوها صديقي دفعاً، هذه الصدفة جعلتني أشهد أمراً وأدخل خضم تجربة تستحق أن تُروى.

أنا لا أعمل في هذه الدنيا شيئاً، إلا إذا اعتبرنا أن النوم والاستيقاظ والأكل والتدخين والسهر وغيرها من الأمور الرتيبة الروتينية عملاً. فأنا أكره العمل، وما أكرهه أكثر من العمل هو الالتزام. أكره، لا بل أبغض أن ألزم نفسي بأمر أو وعد أو عمل ما. لا شيء أبغض إلى قلبـي من أن يطالبني أحدهم بالوفاء أو السداد، وربما لهذا السبب رفضت فكرة الزواج من أصلها.

توفي والدي وأنا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، هذا ما أذكره. وأين الأهمية في تذكر تاريخ وفاة أحد؟ حتى ولو كان المتوفي والدي، فهل سيغير ذلك من الواقع شيئاً؟ تولت والدتي بعد وفاته إدارة جميع شؤوننا أنا وأخواتي الثلاث. لبثت فينا من بعده عشر سنين تقريباً ثم لحقت به إلى الدار الآخرة. حمدت الله أن أخواتي الثلاث كن قد تزوجن في حياتها فأراحتني من همومهن.

صفيت بعد وفاتها كل أعمال والدي رحمه الله، وأديت لأخواتي نصيبهن المفروض. احتفظنا بالممتلكات التي تدر إيجارات لا بأس بها، ولكنني أوكلت الأمر إلى شخص ثقة، يؤدي سائر المهمات المرتبطة بهذه الأملاك من تحصيل وصيانة ونص عقود وغيرها.

منذ زمن لم ألتقِ أخواتي، فقد مر صيفان أو ربما ثلاثة منذ زارت أصغرهن لبنان فالتقيتها. نصيبهن من الإيجارات كان يودع حال الحصول عليه في حساباتهن المصرفية، فكما سبق وذكرت، أكره أن يكون في ذمتي دين أو التزام تجاه أحد.

****

الطريق إلى بعلبك يستغرق من ثلاثة أرباع الساعة إلى الساعة تقريباً. ولكن برفقة فريد فإنك ستصل إلى وجهتك، أياً كانت، بنصف المدة. فلا المطر، ولا الحفر المخادعة التي يسويها المطر مع سائر الطريق، ولا السيول أو المطبات ستنجح في إقناع فريد التخفيف من سرعته.

وصلنا وجهتنا بعد العصر بقليل. هي المرة الأولى التي أزور فيها عبد العزيز هذا. أدخلنا مضافته. لم يكن ثمة ضيف غيرنا في المكان فشعرت بشيء من الارتياح.

سرعان ما وُضع الطعام. إلا أننا لم ننهِ غداءنا بالسرعة نفسها التي وضع بها. تخلل الجلسة كثير من الكلام والأحاديث المتبادلة بينهما، أما أنا فاكتفيت بالاستماع والابتسام. ما إن انتهينا حتى وجدنا مضيفنا قد أتى بالأراجيل والفاكهة والحلوى فتعللت بضيق الوقت. فسرعان ما يحل الليل، وقد جئنا في مهمة محددة، لذلك ألححت في تأجيل تدخين الأرجيلة إلى زيارة أخرى.

شربنا الشاي قبل أن ننتقل إلى المكان الذي تُباع فيه الكتب، فقد كان الخروج من دون شربه مهمة شبه مستحيلة. استغرب فريد إلحاحي المتزايد على الذهاب وهو الذي سمعني ونحن في طريقنا أتذمر من كل شيء، فمتى حلت عليّ الرغبة في شراء الكتب إذاً؟

الحقيقة هي أنني آسف على كل دقيقة أقضيها خارج المنزل في مثل هذا الجو. فلا أروع من أن أجلس قرب الموقدة أدخن سيجاراً وأشرب شيئاً ساخناً. أراقب المطر والريح والسحب في الخارج، أو أشاهد شيئاً في التلفاز. حقا لا شيء يضاهي كل ذلك. أما في الليل فلا بأس إذا خرجت إلى أحد الأماكن، أو أحد البيوت حيث نسهر الليل كله نلعب الورق.

- ستجدون عنده من الكتب ما لم يخطر على بالكم، حتى إن بعضها لم يعد موجوداً. أخبرني فريد أنك مولع بالكتب.

- صحيح.

ما معنى قوله كتباً لم تعد موجودة؟ ضحكت في نفسي مستهزئاً، إذ كيف يمكن لكتب ألاّ تعود موجودة؟ وصلنا حيث المكان المنشود، وحيث الكتب التي لم تعد موجودة. ترجلنا من السيارة وسار عبد العزيز أمامنا بعد أن دخلنا حديقة صغيرة لبيت مسوّر. كانت ابتسامة مفعمة تملأ وجه فريد، على ماذا لم أدرِ سببها؟ أما أنا فكل ما كان يشغلني هو الدفء والنوم.

رحب بنا بائع الكتب بشكل مبالغ فيه، وما إن جلسنا حتى بدأ بطرح الأسئلة عن الكتب كأستاذ يختبر تلاميذه. وكلما سألني عن كتاب لا أعرفه ضحك وتعالى صوته وهو يقول: «كيف لا تعرفه.. يبدو أن هناك أشياء كثيرة لا تعرفها». سئمت هذا المشوار من أوله إلى آخره، وكرهت فريداً وعبد العزيز وأي شيء له علاقة بالكتب، وصار جل همي الخروج والعودة بأسرع وقت ممكن.

- فلترِنا ما عندك إذاً.

- ليس قبل أن نشرب الشاي.

وقبل أن نبدي أي معارضة قفز نحو باب قريب وصرخ يأمر أهله بالإتيان بالشاي سريعاً. حاولنا الاعتذار إلا أن محاولاتنا باءت بالفشل. كيف نقنعه، أو كيف نقول له إننا لو استمررنا على هذه الحال في شرب الشاي في كل مكان نصله، فإننا سنقضي طريق الرجوع نتوقف عند كل قارعة طريق نفرغ ما في مثانتينا.

أصرّ الرجل واستسلمنا. شربنا الشاي على أمل أن نرى الكتب بأسرع وقت ممكن. وفي النهاية قام وطلب منا اللحاق به. دخلنا غرفة مجاورة لنجد فيها آلاف الكتب المرمية بشكل عشوائي وفوضوي، تملأ الرفوف والأرض وبعضها ما زال في صناديق كارتونية.

أغلفة ممزقة، وعناوين تكاد لا تبين، وأوراق صفراء تشهد على قدم هذه الكتب. ولكن كل ذلك لا يهم، فكيف نبحث في كتب يكاد غبارها يخنقنا. تملكتني نوبة سعال فسارعت إلى الخروج قبل أن أختنق.

- لا بأس، دعك من هذه الكتب البالية فطلبك عندي ولكن في غرفة أخرى، تعالَ معي.

تبين أن طلبـي عبارة عن مكتبة باعها صاحبها كما هي.

- ما زالت في الصناديق، انظر. أظنها تحتوي على ألف كتاب.. لا تقلق سعرها مقبول، وسأبيعك إياها كما هي.

شعرتُ بخدر يجتاح دماغي وكأن قبيلة من النمل تحتله وتدب في جميع أجزائي. لم أعد أعي كل الذي يقوله، ولكثرة ما حدثني عنها وافقت على شرائها من دون أن أنظر إليها أو أتفحصها. عارض فريد في البداية هذه الطريقة في الشراء ولكنني اشتريتها.

- ألف دولار ليس أكثر، هذا هو سعرها. تخيل، أي دولار للكتاب الواحد. أرخص من الفجل.

لم أوافق على السعر ولم أرفض. فلسوء حظ البائع تولى فريد مهمة المساومة. أما عبد العزيز فوقف وسيطاً بين الاثنين محاولاً التقريب بين وجهات النظر.

حشرنا الصناديق في السيارة بعد أن ترك له فريد مئتي دولار لا أكثر.

- لا تكفيان.. صدقني.

- لا نحمل غيرها، إما أن تقبل وإما نرحل.

عشر سنوات وليلة

مـرّ الوقت بسرعة وهو يدور بسـيّارته علــى الأحياء والطرقات. تعدى الليـل منتصفه وانغمس في عتمة كالحة، لكنهــا مريحة. إنه مرتاح لســكون الشوارع من الضجيج وخلوّهـا من الحركة. إلــى أين سيذهب الآن؟ أي مكان مناسب يشـعر برغبة في اللجوء إليه؟ ما من مكان محددّ! وما من أحد معيّن يخطر على باله ليلجأ إليه!.

فجأة تذكر ليلة شـبيهة، بغربتها، تماماً بهذه الليلة، ولكــن منذ أكثــر من أربعيــن عاماً. كان طفلاً وقتها لم يتجاوز التاسعة، عاد والده مخموراً وفي حالة مزرية، لقد خسر مبلغاً كبيراً من المال في الميسر وها هو، بدل أن يرتاح ويخفــي ما اقترفه، يوقـظ أهل البيـت جميعهم ويدعوهم إلى الخروج وقضاء سهرة ماتعة في مطعم تحيي فيه فنانة كبيرة حفلاً.

لم يقدّر صغر سن ولديه ولا نومهما الملائكي، أيقظهـما وطلب من زوجته أن ترتدي ثيابها وتساعد الولديْن على ارتداء ملابسهما أيضاً للخروج. والجميع امتثل! لماذا امتثلوا أمره؟ هل هي فكرة الاستمتاع بحفل موسيقي؟ أم أن حماسة الوالد كانت مشجعة وتبشّر بأوقاتٍ سعيدة ومرحة؟ الامتثال قد لا تكون له مسوّغات، يأتي حياديّاً كنوع من طاعة تجد في التلبية أملاً بالمجهول.

خرجوا جميعاً وركبوا السيارة وطافوا فــي الطرقّات بلا هوادة، كما هو يطوف الآن. جالــوا بلا كلل ولا ملل في أحياء وشوارع وأزقة، حتى إنهم عبروا أماكن غريبة وعديدة. وعندما سألت الوالدة، التي كانت على شيء من البساطة أين يقع هذا المطعم حدث ما لم يكن متوقعاً! زجرها الوالــد زجرة رهيبة أربكتهـــم جميعاً، وراح يصرخ بوجهها ويقول لها إنه يكرهها ولا يطيقها، وإنها سبب تشاؤمه وسوء حظه. لقد أضاع طريق المطعم، ثم أخبرهم جميعاً بقراره الصادم: «أريد أن أطلقك! فـي الصباح الباكر سـوف أطلق والدتكم يا أولاد!».

كانت نبيلة شقيقته في الثالثة عشــرة من عمرها، مالت نحو والدها من مقعدها الخلفي والدموع تترقرق في عينيها: «لماذا يا أبي؟ ماذا حصل؟». أما الزوجة المصدومة فقد انهالــت على زوجها لكماً وضرباً وأعولــت وهي تردد: «يا خائن يا غشــاش هل تعرفت إلى غيــري؟ أبعد هذا العمر الذي قضيته معك وأنا أتحمل قرفك وسكرك والرائحة الكريهة التي تعود بها كل مســاء؟». بقيت نبيلة ممسكة بكتف والدها تشده وتسأله: «لماذا؟ ماذا حصل؟». العراك بين الأبوين احتد، وكل منهمــا استمر بلكم الآخر، وعلا السباب وصدحت الشتائم... كل ذلك ونبيلة تمسك بكتف والدها وهي في مقعدها الخلفي تهزّه وهي تسأله باكيــة: «لماذا؟ مــاذا جرى؟ ماذا حصل؟»...

أما السيارة فبقيت تسير بشكل طبيعي، رغم هذه المعارك وهذا الأخذ والرد، رغم سكر وهذيان من يقودها تابعت السيارة نحر الشوارع والطرقات والأحياء والأزقة من الوريد إلى الوريد بعجلات متينة وحادة. أما هو، نادر ابن التسع سنوات، فاكتفى بسدّ أذنيه بكفيّ يديه وحشر وجهه بزجاج النافذة، وراح يتأمل المشاهد المتلاحقة التي تتلاشى بسرعة كبيرة أمام عينيه. تأكد أنه ما من مطعم راقٍ ولا مطربة حسناء ذات صوت رخيم ذائع صيتها، ما من شـيء جميل بانتظاره ليلاقيه ســوى بداية لانهيار حياة عائلته إما بحادث سير نتيجة هذه القيادة المتهورة، وإما بانفصال وشيك بين والديه سيعقّد مسار عمره القادم. فجأة تذكر سريره وهو يلمح أنوار البيوت والحوانيت التي يمرون أمامها، فهي إما مطفأة وإما تكادُ تنطفئ. معظم أصدقائه في المدرسة نيام وسعداء في فراشهم الآن، لعل آباءهم حين عادوا من أعمالهم أطلوا عليهـم وغمروهم وقرأوا لهم قصصاً. ولعل أمهاتهم الآن سعيدات نائمات يحلمن كيف سيطلع النهار ليبدأن يوماً جديداً عاديّاً. ســدّ أذنيه قدر المستطاع حتى خارت قواه وغرق في الســبات متجاهلاً كل ما يحصل داخل هذه المركبة الســائرة بهم نحو المجهول. وحين صحا كانت والدته تحاول حمله لتدخله إلى المنزل، بينما سمع صوت والده وهو يوقظ شقيقته. فتح عينيه ونظر إلى السماء فوجد الفجر يسلك دربه نحو الأرض. لقد استغرق مشــوارهم الليل بكامله، والحفل الموعود كان صاخباً بالهموم والنكد والتوتر. أكمل هو وشقيقته نومهما في سـريريهما بهدوء. حتى الوالدان توقفا عن الشجار وصمتا بفعل التعب والإرهاق.

اليــوم التالي هو عطلة نهاية الأســبوع. من حسـن حظ الطفلين أنهما لن يذهبا إلى المدرســة بعد ساعات مضنية قضياها في قلق وترقّب. استيقظ نادر وبقي في سريره خوفاً من تنفيذ الوالد قراره لكنه ما لبث أن سمع والديه يقهقهان وهما يحتســيان القهوة الصباحية. تسلل خلســة نحو غرفة شقيقته ليسألها عمّا حصل، فأخبرته بأن والديهما قد تصالحا ولن يتطلقا، وطلبت منه أن يعتبر ما حدث في الأمس مجرد كابوس وانتهى. فصدقها ونسي... ذلك الكابوس المزعج.

لم يعلم نادر، أو الدكتور نادر، لماذا عاد إلى ذاكرته هذا الحدث مجدداً الآن؟ هل هو حنين إلى تلك الأيام البريئة رغم جنونها وغرابتها؟ أم هل يجب على الوجع الحالي ليسيطر أن يمحو أوجاعاً أخرى سابقة؟ لا ليس كذلك! ليس كذلك على الإطلاق! إنه مشــتاق إلى والديــه. بحاجة إلى جنــون والده وبساطة والدته. بحاجة إلى والديه، رغم كل الظروف القاسية التي عرّضاه لها. إنه بحاجة إلى أن يكون بين أذرعهما ولو لمرة واحدة بعد رحيلهمـــا. أدار المقود بسرعة متوجهاً نحو دكان والده الواقع وسط البلد. وصل وكأنه تأخر كثيراً في الوصول. الشارع ذاته تغير بهندســة دكاكينه، أصبح أكثر حداثة ورقيّاً. وكلما اقترب أكثر من الدكان المنشود كلما لاح له والده وكأنه يمد يده مشيراً إليه ليقترب أكثر فأكثر، إلى أن وطئت قدماه عتبة ذلك الدكان العائد من غيبوبة الماضي البعيــد.

تناول حمالة المفاتيح وراح يبحث عن مفتاح بابه. شعر لحظتها وكأنه يبحث عن كلمة سر. عن شيء ما مفقود يخصّ هذا المكان. كان متجر بيع حلوى، وبعد رحيل والده رفض بيعه، وأعطته نبيلة نسخة عن المفاتيح حفظها معــه كذكرى من والده؛ كانت النسخة الأصلية، وكثيراً ما كان يتحسّس حوافها المسنّنة ليتنشق ‏رائحته من خلال اللمس. راح يبحث وهو يحاول بأي طريقة دخول الدكان. هناك كلمة سر ما شبيهة بكلمة سر علي بابا وعبارات مارد فانوسه السحري. معظم المفاتيح التي جربها لم تتناسب مع القفل. توقف لبرهة وراح يتأمل ما حوله مستذكراً. جال بعينيه على المحلات المجاورة علّه يجد تلك الكلمة – المفتاح، لكن عبثاً باءت محاولاته بالفشل. رفع رأسه عالياً نحو السماء وراح يتضرّع بصمت: «يا الله ساعدني!».

back to top