تصنيف الذائقة ووعي التلقّي

نشر في 10-10-2008
آخر تحديث 10-10-2008 | 00:00
انَّ النصّ الجماهيري، في الشِّعر العامّي، يأتي دائمًا وفق شروط النصّ الشفهي، لأنَّ الذاكرة الشعبيَّة ذاكرةٌ شفهيَّة، وقلّما تجد شاعرًا يكتب نصَّه وفق شروط الكتابة وتقنيتها الحديثة يلامس ذائقة الجمهور، ولاسيما حين يحاول هذا الشاعر العبور إلى الجمهور من خلال المنابر الإعلاميَّة، لأنَّ هذه المنابر مصنوعةٌ وفق شروط الشفهيَّة، ومن هذه الشروط أن يكون النصّ واضحًا تطريبيّا، مدهشًا، وأعني بالدهشة هنا اعتماده على مفعول اللحظة، ومن هذه الشروط ما ليس له علاقة بالنصّ، وإنما علاقته بالإلقاء والحضور المسرحي.
 سعود الصاعدي يقول محمود شاكر، في معرض حديثه عن « التذوُّق «وإيثاره لهذا اللفظ في وصف عمل المتلقِّي تجاه النصّ الأدبي : « وجدت نفسي، في عمل الاستبانة عندي، وانا أتأمَّله، أشبه بعمل جارحة اللسان في تذوُّق الطعوم مرة بعد مرة، ثم أشبه بما يتسم به اللسان في التذوق، من سرعة الفعل وسرعة انقضاء الفعل، وسرعة الحكم على الشيء الذي وقع عليه الفعل، أي هذا الشعور الخاطف بالحلاوة، أو المرارة، أو الملوحة، أو الغضاضة، أو اللذع، وسائر ما يتولى اللسان الحكم عليه من طعوم الأشياء».

ولاشك أننا حين نفرغ من سماع نصٍّ شعريٍّ، نشعر، كمتذوّقين للشعر، بالمتعة ويصاحب ذلك اهتزازٌ وطربٌ في النفس، هذا الاهتزاز هو الأثر الذي ينتج عن تذوّقنا لعمل أدبيّ، شعرًا كان أم نثرا، وعليه فإننا بإزاء عملٍ يُذاق، له طعمٌ كسائر الأشياء التي تختلف طعومها وتفترق فيما بين الناس في إحساسهم بمذاقها.والناس في إدراك طعوم الأشياء يختلفون باختلاف أذواقهم وآلة التذوّق التي يباشرون بها هذه الطعوم المختلفة.

يقول المتنبّي :

ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ

... يجد مرًّا به الماء الزلالا

وهذا معناه، في تلقّي النصّ الإبداعي، أنَّ الحكم قد يكون متعذّرًا بسبب عدم وجود آلة التذوُّق لدى المتلقِّي، أو بسبب حائلٍ يحول بين حاسَّة التذوُّق وطعوم الأشياء.

وإدراك المتعة من الشِّعر، وقراءته قراءةً واعية، أو حتى الاستماع إليه بتذوُّق، يتوقّف على هذه «الذائقة» التي يدرك المتلقِّي بسببها لذّة الشعر ومتعته.

يتبيَّن من ذلك أنَّ الذائقة، في المقام الأول، هي المسؤول عن الإحساس بالإبداع،ولأنَّ الأمر كذلك، فإنني أرى أنَّ تصنيف الشعر، إذا كان الحديث عن التذوُّق، ينبغي أن يكون غير التصنيف الذي اعتدناه، وأعنى به ذلك التصنيف الذي ينطلق من « المبدع / الشاعر «، وإنما علينا أن نصنِّف الشعر بحسب تلقّيه ومذاقه، فيكون «المتلقِّي» للإبداع هو محور التصنيف، فحين تكون أداة التلقِّي هي « الأذن» يكون النصُّ شفهيًَّا، لأنَّ الأذن «تذوق» الشعر الشفهيَّ بالاستماع إليه والتأثُّر بموسيقاه ومقاطعه وطريقة إلقائه.

وحين تكون أداة التلقِّي «العين» يكون النصُّ مدوَّنًا / مكتوبًا، أمَّا حين تكون أداة التلقِّي «الذهن» فإنَّ النصَّ، في هذه الحالة، لابدّ وأن يكون نصًّا مثيرًا للخيال واستدعاء الصور، ويمكن أن نطلق عليه النصّ الذهني التخييلي. فتكون عندنا – بحسب آلة التذوُّق – ثلاثة أنواع من النصوص : «النصّ الشفهي» و «النصّ المكتوب» و «النصّ التخييلي»، ولكلّ نوعٍ طريقته الذوقيَّة وتقنيته الشعريَّة.

فالنص الشفهيُّ يرتكز على التأثير المباشر، وجماله في بعده عن الإيغال في الرمز، وهو غالبًا ما يكون رسالة شعريَّة إلى المتلقِّي بقصد الإفهام والتأثير السريع، لأنَّه – بسبب شفهيته – لا ينتظر القراءة الثانية، فهو – إن لم يسيطر على المتلقِّي من القراءة الأولى / الاستماع الأوَّل – لا يحقّق شرطه الشفهيَّ، وبالتالي فإنَّه يعلن موته حين لا يحيا على طاولة الأمسية أو على حافَّة المنبر.

أمَّا النصُّ المكتوب، أو المدوَّن فإنَّه نصُّ يرتكز على شروط الكتابة، حيث يختزن جماله ويحتفظ برؤاه ودلالاته لقراءات متوالية، كما تحتفظ الورقة بالحبر لقرَّاء غائبين لم يولدوا بعد، وهكذا فإنَّ النصّ الشعريَّ المكتوب، وإن كان في مبدأ تكوينه شفهيًَّا، لا يسلم نفسه للقارئ دفعةً واحدة، وإنما سطرًا وراء سطر، وجملة وراء جملة : السطر المقروء يفضي إلى سطر غائب خلفه، والجملة المكتوبة تفضي إلى جملةٍ غائبة خلفها، وهذا معنى من معاني الرمزيَّة الشعريَّة التي تقول شيئًا وتريد شيئًا آخر.

ولذلك فإنَّ هذا النوع من الشّعر يتّسع ويستجيب لكلّ أشكال الكتابة، وربما كانت بعض الأشكال الكتابيَّة التي ليست من صميم النصّ جزءًا من دلالته، فيدخل في هذا النوع : الشعر الإلكتروني، وهو شعرٌ يرتكز – أحيانًا – على التقنية الكتابيَّة الخاصَّة من علامات ترقيم ومساحات بيضاء مقصودة !

ولاشكّ أنَّ الحكم على هذا الشِّعر بذائقة الصنف الأوَّل غير مجد، ولا يفضي إلى نتيجة ذوقيَّة صحيحة، لأنَّ وسيلة التذوُّق في هذه الحالة « العين « وذلك بتتبّع أشكال الكتابة وما تريد الدلالة عليه من إسقاطات.

غير أنَّه من المهمّ التنويه، في هذا السياق، إلى أنَّ كتاب هذا الشِّعر، والذين يعون دلالة الشكل الكتابي، قلَّة، فليست القضيَّة عبثًا كيبورديا، أو مجرَّد هواية رصف للألوان والكلمات والإشارات.

أمَّا النصّ التخييلي، أو الذهني، فهو نصٌّ يستثير الخيال ويثيره بازدحام الصور، أو بتقديم صورة مسرحيَّة و تحريكها ومسرحتها في مشهدٍ دراميّ، وهذا النوع – في رأيي – يلامس ذائقة الخيال أكثر، وإن كان صالحًا للشفهيَّة، وللكتابة، إلا أنَّه يُذاق بحاسَّة «الذهن» بما يحرِّك من مشاهد ذهنيَّة أمام القارئ، فهو أشبه بالسينما المتحرّكة، وصوره ترى عيانًا، بحيث تراه وأنت مغمض العينين، تمامًا كما تنطفئ كلّ قناديل المسرح لتبقى الصور معلَّقة في الجدار.

وبناءً على التصنيف السابق نجد الشعراء يتفاوتون في درجاتهم وتقديم بعضهم على بعض لدى المتلقِّي، ولعلَّ هذا هو السرّ في أنَّ النصّ الجماهيري، في الشِّعر العامّي، يأتي دائمًا وفق شروط النصّ الشفهي، لأنَّ الذاكرة الشعبيَّة ذاكرةٌ شفهيَّة، وقلّما تجد شاعرًا يكتب نصَّه وفق شروط الكتابة وتقنيتها الحديثة يلامس ذائقة الجمهور، ولاسيما حين يحاول هذا الشاعر العبور إلى الجمهور من خلال المنابر الإعلاميَّة، لأنَّ هذه المنابر مصنوعةٌ وفق شروط الشفهيَّة، ومن هذه الشروط أن يكون النصّ واضحًا تطريبيّا، مدهشًا، وأعني بالدهشة هنا اعتماده على مفعول اللحظة، ومن هذه الشروط ما ليس له علاقة بالنصّ، وإنما علاقته بالإلقاء والحضور المسرحي. هذه الشروط، في رأيي، هي التي تمنح الشاعر التفوُّق حين يخوض غمار المسابقات الشعرية.

لكن هذا كله لا يعني عدم نجاح النصّ الكتابي، أو النصّ الذهني – إن صحّت هذه التسمية – فثمة شعراء استطاعوا أن يعتقوا النصّ من قفص الورقة، ومن حصار الذهن والخيال، بوعيٍ مكّنهم من التحليق بكلّ تلك الأطياف، فكتبوا النصّ العامي الحديث في فضاءٍ حرٍّ يستعصي على التصنيف.

وهنا أودُّ أن ألفت إلى أنني لست ضدّ اتجاه شعريٍّ لصالح اتجاهٍ آخر، لأن التحيّز يكون للإبداع والتجدّد والقدرة على التميّز، وربما كان الشاعر تقليديّا، أو كلاسيكيا بحسب تعبير النقاد المحدثين، وهو متجدّدٌ في معانيه وصوره التي يقتنصها من الخيال، فليس الاتجاه سوى فضاء للتحليق، والعبرة – كلّ العبرة – بطريقة التحليق وتجدُّد الرفرفة..!

back to top