فقر التّعدّدية... وغناها

نشر في 23-09-2008
آخر تحديث 23-09-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ في ظلّ تعدّديّاتنا الإقصائية المتنابذة، لن يكون لنا وجود، ولن يكون لأيّ فريق أو تيّار سمة «الفرقة النّاجية» مطلقا، ولن يكون لدينا من ينجو أصلا من عاهة التّفرقة وموبقات التشظي والتّفتيت.

لم يتح لنا بعد، وعبر تاريخنا المدوّن كلّه، ما يفيد بإمكان ترسيخ مسألة التّعدّدية في الفضاء العربي، فهي على اختلافاتها- الثّقافية والدّينية والسّياسية- تعدّديات إقصائيّة متنابذة، لم تعرف العلاقات التّبادليّة الدّيمقراطية لا في علاقاتها البينيّة، ولا في علاقاتها الذّاتيّة. وحتّى في ذاتها لا تضمر التّعدديات المرضيّة سوى العنف والعداء للآخر أو للآخرين، وكأنّ حضور الواحد لا يتمّ إلاّ عبر نفي الآخر، تغييبه عن نطاقات الاشتغال الفعلية أو التّفاعلية. وإلاّ ما معنى النّفي هنا؛ إن لم يكن هو رفض التّفاعل مع الآخر، أو التّعاطي معه في مجالات تفترض الوجود والمواجهة للاشتغال على إنتاج معنى للوجود الفيزيقي، لكون يعتمر بالحركة، ويعتمد الحراك وسيلة للتّواصل، والاغتذاء من نسغ الوجود الإنساني الأكثر غنى واغتناء من فقر التّعدد المرضي، في مجتمعات لا تقيم إلاّ عند حدود الكمّ الأكثر رثاثة. أمّا التّنوّع النّوعي بدوره، فهو ما لن تنتجه إلاّ مجتمعات أخرى توجد في قلب عمليّة تاريخيّة، هي نتاج إرادة إنسانيّة واعية عقلانيّة منفتحة متسامحة متسامية عن رثاثات الإقصاء الإلغائي للآخر الشّريك في الوجود وفي الوطن وفي الحياة.

صحيح أنّ الماضي ليس كلّه شرّا، لا بدّ من إدانته أو التّنصل منه، لكن من الصّحيح أكثر ألّا نخضعه لتقويمات تبجيليّة، وجعله مرجعيّة أولى وأخيرة للحاضر والمستقبل، ننبذ من خلالها كلّ إمكان بالانفتاح على شركاء الوجود الإنساني، أو العمل معهم على إنتاج معنى لحياة إنسانيّة أكثر عدلا ومساواة ثقافيّا وسياسيّا، ذلك أنّ المجتمعات البشريّة ليست نسيجا وحدها وهي تصوغ معنى وجودها، أو أنّ المجتمع الواحد لا يمكنه اعتزال التّأثّر والتأثير أو التّفاعل والتّفعيل، وإلاّ كانت طوبى مثل هذا المجتمع ترفع من منسوب ابتعاده عن الواقع، وهو إلى الانهيار أقرب؛ انهيار القيم داخله وتشوّهها وعدم فاعليّتها لا على الصّعيد الأخلاقي، ولا حتّى على صعيد الصّورة أو المظهر الّذي يريد هذا المجتمع إبرازها وإشاعتها عن ذاته.

لهذا يتطلّب التّأسيس لمعنى آخر لوجودنا في عالم بات أكثر تعولما من ذي قبل، تبنّي القيم الكونيّة التي تنسجم وأخلاقيّات مجتمعاتنا، بل تعيد لأخلاقيّاتنا بعض بريقها الّذي غيّبته موجات معولمة من «التّدين الشّعبوي» التي أمست أكثر تغلغلا قي ثنايا مجتمعات التّشظّي و«التّمذهب التّكليفي» الجديد الآخذ أبعادا تكفيريّة وإرهابيّة، غابت معها أو غيّبت؛ العديد من القيم المزعوم أنّها بطبيعتها وطبعها هي ملكنا وطوع بناننا ومن إنتاجنا، وهذا شكل من أشكال نزع الأخلاقيّة عن التّديّن وهبوط بالقيم الأخلاقيّة إلى مستوى النّفي، إعلاء لسلوك «شعبوي» هو إلى التّكفيريّة والإرهابيّة أقرب، وتشويها لسماحة التديّن الفطري، الفردي غير المسيّس، العامل لذاته، لا المنتدب تلك الذّات لمهمّات تنوء عن حملها الجبال والبحار؛ مهمّات «تكليفيّة» تمذهب أصحابها حتّى بلغت مراحل تمذهبها «التّكليفيّة» أنّهم باتوا بديلا لسلطة الله على العالمين.

إنّ الانغمار في الثّقافات الأخرى، لا يوجب التّخلّي عن الخصوصيّة، أو عن الهويّة الذّاتيّة، بقدر ما يعني من جانب الذّات بحثها الدّائب عن التّناقضات التي ينتجها الاختلاف الطّبيعي، لا الخلاف العامد إلى إبراز وتضخيم تلك التّناقضات والنّفخ فيها، بدلا من البحث عن التّماثل والتّجانس المستحيل.

ليس العالم متجانسا أو متماثلا ولن يكون، لا اليوم ولا في المستقبل، كما لم يكن في الماضي كذلك. إنّ الكوزموبوليتانيّة الثّقافيّة أو ذات المنظور الثّقافي في تحديدها وتأطيرها لرغبة اللقاء أو التّواصل أو التّعاطي مع الآخر، إنّما هي تؤسّس لروح أو لجوهر عولمي، علماني بطبيعته، وهو نتاج عالم كان أكثر انفتاحا وتسامحا وتساميا على جراح الهويّات في ما مضى، من حقب تاريخيّة، شهدت لعولمة أكثر إنسانيّة ولتعدّديّة حقيقيّة، ولتنوّع أكثر شفافية؛ عماده الاحترام المتبادل والتّعاطي مع الآخر بإيجابيّة الاحتضان والانغمار في ثقافته، لا التّعمّد في إقصائه من جنّة الحياة الدّنيا والحكم عليه بالنّبذ الأبدي!

لسنا أكثر انسجاما أو تماثلا، أو صدقا مع ذواتنا ومع الآخرين. لسنا أكثر اتّحادا أو توحّدا. لسنا أكثر وحدة في النّظر إلى ذاتنا الجماعيّة أو إلى الآخرين وذواتهم الجماعيّة. لسنا أكثر وحدة في استشراف آفاقنا المستقبليّة؛ مجتمعا أو مجتمعات، دولة أو دول، أمّة أو أمم. كما أننا لسنا موحّدين في اجتماعنا العائلي أو العشائري. اجتماعنا مؤقّت، وحدتنا كذلك. رؤانا مختلفة محكومة لمرجعيّة الخلاف لا الاختلاف. لبيسماركيّة تستبدّ بنا كلما لاح لزعيم منّا أنّه الأوحد -لا الوحيد- القادر على فرض استبداده وسلطويّته، في فضاء عام؛ صدف أن تسيّده بقوّة الأجهزة العسكريّة أو الأمنيّة أو البيروقراطيّة الحكوميّة أو الأيديولوجيّة، أو كل ّهذه دفعة واحدة.

هكذا في ظلّ تعدّديّاتنا الإقصائية المتنابذة، لن يكون لنا وجود، ولن يكون لأيّ فريق أو تيّار سمة «الفرقة النّاجية» مطلقا، ولن يكون لدينا من ينجو أصلا من عاهة التّفرقة وموبقات التشظية والتّفتيت. الوحدة تعدّديّة في الفضاء السّياسي كما في الفضاء الثّقافي، كما في الفضاء الدّيني. ليست كلّ تعدّديّة تنابذيّة، وليس كلّ اختلاف خلافا، لكن في فضائنا العربي العام للأسف؛ تعدّديّاتنا تنابذيّة إقصائيّة، اختلافاتنا خلافيّة في العمق، لا نصيب لنا في رؤيتها تنحلّ في السّياسة أو عبرها وعبر تسوياتها، لا سيّما ونحن نراها في تعقيداتها تتعقّد أكثر، ولا آفاق لحلّها طالما نحن كلّنا من يساهم في إضافة المزيد من العقد إلى تعقيداتها.

* كاتب فلسطيني

back to top