في ضرورة استعادة عقولنا العلمية

نشر في 14-10-2008
آخر تحديث 14-10-2008 | 00:00
 ماجد الشيخ عام 1972 لم تكن الهند تمتلك القاعدة البشرية أو المادية التي تؤهلها إقامة مركز لعلوم الفضاء، رغم ذلك تمكنت وبقرار سياسي سيادي من إقامة هذا المركز، وذلك بجهود أبنائها العاملين في الخارج، رغم ما كانت تعيشه في تلك الفترة من مجاعات؛ جراء تردي وضعها الإقتصادي. وهذا ما لم يقف حائلا دون ما ابتغاه المجمع العسكري من امتلاك أدوات التطور التقني والتكنولوجي في ظل اقتصاد المعرفة.

هكذا كان القرار السياسي الدافع الأبرز لاستعادة العقل العلمي الهندي من الخارج، حيث شكلت تكنولوجيا المعلومات إلى جانب البيئة المحلية، والإمكانيات في ظل حرية البحث العلمي روح وحكمة القيادة السياسية. في وقت تؤكد لغة العلم، أنها لغة عالمية عابرة للحدود والقارات والدول، وحتى اللغات. وهي ليست مقتصرة على دولة أو مجتمع ما، فالعلوم أمست هي الأساس للحياة الحديثة، والوسيلة التي لابد منها للتعاطي مع وسائل الاتصال والعلاقات الإنسانية والتواصل المعرفي والعلمي والتكنولوجي، الذي بات رقميا في أيامنا هذه.

ولأن العلوم لا تنمو إلا في بيئة مساندة ومساعدة، فإن بيئة البحث العلمي لا يمكن استيرادها من الخارج، بل إن البيئة المحلية الاجتماعية والسياسية والإمكانيات الاقتصادية والمعارف العلمية. هذه كلها واحدة من إبداعات الذات الاجتماعية وعوامل البيئة المحلية، في تضافرها خلقت ويمكن أن تخلق بيئة صالحة للسيطرة على القوة والثروة التي تجعل من القرار السياسي، أكثر سيادية وجرأة في التمرد والخروج من نطاقات التبعية للخارج.

هذه وغيرها من مسببات باتت تتداعى في فضاءاتنا العربية والإسلامية، ما جعل د. مسعود ضاهر (السفير 10/4/2008) يتساءل :» لمصلحة من يتم توحيد السوق والنظم والقيم السائدة التي هي قوى الرأسمالية الهمجية؟ ومن يدفع ثمن الصراع في ظل عولمة تسودها قيم مضادة للعقلانية الغربية نفسها، ولمقولات أوروبا الرأسمالية في مطلع عهد الأنوار؟ ولماذا إصرار غالبية مثقفي الغرب على تمجيد مقولة (القوة والثروة) كأن من يملك القوة له الحق في السيطرة على الثروة؛ أينما كانت؟».

من هنا نرى أن الليبرالية الاقتصادية المتوحشة الراهنة التي أنتجها الغرب، وهي تؤدي شيئا فشيئا إلى عملية إفقار وتهميش واستبعاد واسعة لشعوب ومجتمعات ودول العالم، هي بالتدريج تؤدي اليوم إلى تهميش وتدمير الطبقات الوسطى، في مجتمعات أحوج ما تكون لهذه الطبقة، لما تنطوي عليه بعض شرائحها المتنورة من حوامل إرث التنوير والحداثة واستنهاض مجتمعاتها وانتشالها من ترديات الاستبداد والتسلط والتبعية.

لهذا فإن الغرب وفي سياق استتباعه الأنظمة القائمة ونهب ثروات شعوبها، ما يني يعمل على إفراغ بلدان العالم على اختلافها، من كوادرها العلمية وقواها المستنيرة، والنخب التي نالت قسطا وافرا من التعليم والثقافة الليبرالية و»شفطها» باتجاه بلدانه وجامعاته ومعاهده ومختبراته، دون أن يكون مهتما أو معنيا بتنمية معرفية أو بشرية أو اقتصادية، تنقذ هذه البلدان من إرث الاستبداد المقيم، وتدفع بها إلى خوض تجاربها الديمقراطية وبناء حيواتها انحيازا إلى خبراتها الوطنية، وإنقاذا لها من التبعية وإستلاب إراداتها التي يكبلها التخلف المريع ويشدها دوما إلى الخلف؛ حيث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية، التي حدَّت وتحد من إطلاق أي ديناميات مستقلة لتنمية بشرية واقتصادية وبناء مجتمع المعرفة والمعلومات ومراكز الأبحاث العلمية.

وإذا كان من شأن عمليات الإصلاح الديني والسياسي والاقتصادي أن تطلق دينامياتها الخاصة، كل في مجالها، وإزاء العملية التنموية بشكل عام، فإن هذه الأخيرة نفسها ليس من شأنها أن تنطلق إلا على أيدي إصلاحيين حقا، يساهمون في إضفاء آليات أكثر حيوية إزاء عملية التنمية، وفي كل الاتجاهات والصعد. لكن، وحصريا، فإن من شأن عمليات الإصلاح التعليمي في بلادنا العربية إنقاذ أجيالنا من مناهج التعليم التقليدية والرؤى السلفية، وتقديم حوافز مهمة لها تساعد مجتمعاتنا في مواكبة أفكار عصرية منتجة، تساهم إسهاما خلاقا في تسريع عمليات التنمية الضرورية للتقدم والحداثة.

وفي هذا السياق تشكل مراكز الأبحاث المستقلة ومناهج البحث العلمي؛ إحدى الضرورات المهمة، إلى جانب تطوير مناهج علم الاجتماع والعلوم التربوية وثقافة حقوق الإنسان, كونها يمكن أن تشكل أرضية خصبة لتوليد الرؤى الاستراتيجية الشاملة لمنظومة مجتمعية، تجمع على ضرورة بناء اقتصاد المعرفة وثقافة التنمية المعرفية.

ولئن كان التعليم ناتج عوامل تداخل وتشابك السلطة وعناصر التدين الخاصة والسياسة وأشكال من التعليم المحلي الخاضع لتفسيراته ورؤاه الخاصة، فإن العملية التعليمية كناتج مجتمعي، لاسيما التعليم الخاص، كان لابد له أن ينطوي على عامل تقسيم للمجتمع، أنتج وجود شرائح طبقية فقيرة، شجعت وتشجع التعليم الرسمي العام، فيما شرائح طبقية أخرى راكمت ثرواتها جراء ما يمكن تسميته «تنمية الفقر» في مجتمعاتها، هي التي سعت وشجعت على التعليم الخاص عبر المدارس والجامعات الخاصة- غربية الطابع في معظمها- مثل هذا الوضع خلق إلى جانب الانقسامات الطبقية «الطبيعية» المعهودة داخل المجتمعات البشرية، انقسامات حادة أخرى، يقف فيها اتجاهان على طرفي نقيض: إتجاه ينشأ مواليا للسلطة وتابعا لها ولبيروقراطيتها الحكومية، وينحاز للتعليم الخاص والجامعات الخاصة. وإتجاه آخر يتجه نحو معارضتها، وهو الذي لم تشمله الرعاية الحكومية بالأساس، بل ورطته سياساتها بالعديد من الأزمات والإشكالات التي بات من الصعب معالجتها أو إيجاد حلول ناجعة لها، في ظل تجذر وترسخ بيروقراطية السلطة أو السلطات المعادية لتأكيد وجود الدولة إزاء أشكال ممارستها التدخلية منها والرعوية كافة.

لقد كان من الأهمية بمكان توافر الإرادة السياسية من لدن الدولة وحضورها الفاعل، لتجاوز عقبات وعتبات التبعية، وصولا إلى تنمية حقيقية ومعارف مستقلة، وإلا فإن السيادة في فضاءاتنا العربية ستبقى وقفا على الاستبداد والتسلط والتبعية والتخلف.

* كاتب فلسطيني

back to top