آثام الديموقراطية (1-2)

نشر في 09-09-2022
آخر تحديث 09-09-2022 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي هناك تساؤل لا يسع دارس للنظرية الديموقراطية في الحكم منه فكاكا، ذلك يحوم حول علة القطيعة في تاريخ الحكم الديموقراطي منذ انهيار أثينا في القرن الخامس ق.م، حتى إعادة اكتشاف تركة الإغريق في سطور وثيقة الحقوق الإنكليزية في نهاية القرن السابع عشر، حيث رسخت أقدامها منذئذ في الجزر البريطانية، نعم عثر خلال هذه الفترة السحيقة هنا وهناك على بعض سمات الحكم الأثيني، أكان ذلك في سياق الشورى أو المشاركة أو في ثمة ضروب من مساواة بين الأفراد، أما النظام الديموقراطي على نطاق واسع كما عرفته أثينا فلم يخبر، ويبدو أن المسلمين قد كانوا في فترة مبكرة على دراية بمجريات النظام، ورغم ذلك لم يحبذوه، فمما يؤثر من أخبار في صدر الإسلام أن الروم كان ديدنهم تنصيب وخلع زعمائهم، كما أن استدراك عمرو بن العاص على حديث نبوي في فضل الروم بأن ذلك يعود لخصال منها أنهم أمنع الناس لظلم الملوك، يؤكد معرفة المسلمين آنذاك بدور العامة هناك في التغيير السياسي.

على أية حال لعل ما نعنيه من قطيعة تعود إلى التغيير الجذري في المجتمع الذي يعد لا محالة متطلباً لتدشين نظام ديموقراطي، والتبعات الخطيرة المترتبة عليه حال إرسائه، أكان ذلك على صعيد اجتراح تبدل في خريطة توزيع النفوذ أو الأنصبة من موارد المجتمع، أو بوصف آلة الديموقراطية سلما فاعلا للصعود، وبما أن المشروع الديموقراطي بسمات خطيرة كهذه طارئ على الاجتماع البشري، لذا لم يكن على الدوام بالمشروع المرحب به.

ويمكن تلخيص بعض سهام النقد الموجهة إلى المشروع الديموقراطي، والتي تصاحب فضائله يدا بيد، في ثلاث نقاط، فهناك أولاً وقوف الديموقراطية حائرة أمام حل معضلة العدالة الاجتماعية، فهي وإن قامت على مبدأ المساواة بين الأفراد، ما لم يكن بالمناسبة على إطلاقه لدى الأثينيين، أقول مساواة بين رجل وامرأة، أبيض وأسود، بل بين إنسان وحيوان وكل من وما يحمل صفة اعتبارية بمقتضى النظام، فإن هذا النظام يبدو عاجزاً عن تحقيق العدالة، أي مساواة على أرض الواقع لا في شكل القانون فحسب. علة ذلك هو أن مكونات المجتمع من أفراد أو مجاميع قد حققت في مرحلة سابقة مراكز اقتصادية متفاوتة، ولعل مثل هذا التفاوت وما يترتب عليه من توزيع متباين في الموارد عائد في أغلبه إلى ظروف غير طبيعية، أو نتيجة اختلال في مراكز القوى، أو لنقل تبعة لمنطلقات غير متساوية للأفراد، وعليه فالتوزيع الماثل عند تدشين الديموقراطية ليس إلا تركة عن حقبة سابقة، وفي حال عدم قدرة آلة الديموقراطية على تصحيح ذلك، أو إعادة توزيع الموارد أو توحيد منطلقات الأفراد، فلن يكون عمل تلك الآلة إلا إعادة إنتاج لتلك التركة، أي تكريس الاختلال الماثل في العدالة الاجتماعية، فحال أميركا اللاتينية يأتي شاهداً صارخاً على مثل هذا الاختلال، فرغم أن أغلب مجتمعاتها تعد أنظمة ديموقراطية بجذور أوروبية، فإن الوضع التنموي يصيب كل مراقب بالذهول، فلا يبدو الفارق بين الغنى والفقر جلياً وهائلاً في العالم كما هو في تلك الناحية، فبحسب أرقام البنك الدولي يهيمن فقط عُشر سكان القارة على أكثر من نصف ثرائها، ولا مراء أن جذور ذلك تعود إلى المرحلة الاستعمارية، لكن تلك المرحلة قد ولت في معظم دول القارة منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولم تكن الأنظمة الديموقراطية التي خلفت المستعمر منذئذ إلا آلة لتكريس ذلك الاختلال.

د. محمد بن عصّام السبيعي

back to top