مذكرات موظف

نشر في 05-08-2022
آخر تحديث 05-08-2022 | 00:07
 د. محمد عبدالرحمن العقيل لديّ صديق كان يعمل في تجارة البخور والعطور، يعشق هذا المجال لأبعد الحدود، وحرص على تطوير نفسه باستمرار، وتعلُّم كل جديد إلى درجة أنه أصبح يعطي دورات نظرية وعملية في التركيبات العطرية وطرق تصنيعها، وفي فترة وجيزة كوّن سمعة طيبة مع زبائنه والتجار، وكل هذا نتاج جهده المتواصل وتعبه، الذي كان يسعده يومياً.

لكن الصديق ذاته، وبعد فترة من هذا المشوار الجميل، اضطرّ للانفصال عن شريكه في التجارة لأسباب خارجة عن إرادته، وما كان بيده كرب أسرة أي خيار إلا العودة إلى وظيفته القديمة بإحدى الوزارات، وهو كاره لهذا العمل وطبيعته، وليرجع إلى ذلك الروتين المكتبي السخيف، ولم يكن يطيق وظيفته، ولا يشعر بقيمته الحقيقية فيها.

يقول صاحبنا: عندما رجعت موظفاً إلى مقر عملي البائس... بدأ عرض المسلسل الدرامي اليومي الممل الذي كنت أعيشه من قبل... وتذكرت وصف أحد مديرينا الأعزاء عندما قالي لي ذات مرة: « أنت في مقبرة الإبداع»!

كان العمل شكلياً لا وزن له، ويكفي تفويض موظف أو موظفين للقيام بهذه الأعمال الشكلية، التي تعطي ترجمة لاسم المكان فقط... يقول: بدأ مؤشر عداد البؤس يرتفع من أول لحظة.

قلّ شعوري بتحمل المسؤولية، قلّ شعوري بالانتماء، لم أعد اهتم بتطوير المهارات، تشوهت الصورة الجميلة لحب العمل، تشتتت الهوية الوظيفية، ضاع الاعتزاز بالتخصص، بدأ الانغماس في البيروقراطية، بدأ التعود لنظرة المديرين الدونية لنا، بدأ الاختلاط بالمحبطين وقليلي الهمة، بدأ الكسل والاسترخاء على المكتب، «مينيو» الطعام بين أيدينا، بدأ السماع للسخافات، بدأ الإصغاء لها، بدأ الحديث عنها، ثم بدأ الاستمتاع بها، ثم بدأ الدفاع عنها!

لاتزال المعاملات ورقية بطيئة، ١٩٥٠ مثل ٢٠٢٢، لا توجد خطة عمل! مدير يكذب... نائب يغش... وكيل يسرق، والموظف يتفرج... خذوا منه السُّلطة وأعطوه «منيو» السَّلطة، يا إلهي... كيف أخلص لهذا المكان! كيف أعمل... أو كيف استمر؟

للأسف؛ هذا هو الحال في بعض الإدارات الحكومية، فلذلك أنصح أبناءنا حديثي التخرج بالابتعاد عن الوظائف الحكومية المكتبية، التي تقيد حريتنا وتدفن إبداعاتنا... والتوجه للتجارة والأعمال الحرة، «إذا وجد أي منهم نفسه فيها»، أو الحرف اليدوية (لأصحاب المهارات)، واسألوا عن حلاوتها عند أهل الاختصاص، فهي من أطيب الكسب، وهي متعة من متع الحياة، والكنز المدفون داخل كل مبدع، و هي المصنع الذاتي الذي لا ينضب. فهي إبداعاتنا الشخصية التي نتلذذ بتطويرها يوميا.

أعزائي القراء، كانت هذه نصيحتي بعجالة لحضراتكم بشكل لطيف وخفيف... وأما نصيحة «هتلر» للموظفين فقد ذكرها في كتابه «كفاحي»، بكل صراحة، يقول: «لن أستطيع الوصول للراحة النفسية في أي وظيفة حكومية... سأكون رساماً، ولن تقدر أي قوة في العالم على جعلي موظفاً».

د. محمد عبدالرحمن العقيل

back to top