السلام بأي ثمن في أوكرانيا... مرفوض

نشر في 01-07-2022
آخر تحديث 01-07-2022 | 00:00
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الرابع، بدأت الدعوات تتصاعد في غرب أوروبا والولايات المتحدة لتكثيف الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب، ففي أواخر شهر مايو، اقترحت إيطاليا خطة سلام مؤلفة من أربع نقاط، على أن تبلغ ذروتها مع تخفيف العقوبات عن روسيا، وبعد فترة قصيرة، تكلم وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في منتدى دافوس ودعا أوكرانيا إلى التنازل عن جزءٍ من أراضيها لروسيا وبدء المفاوضات فوراً، وفي بداية يونيو كرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعوته إلى عدم «إهانة» روسيا، وفي أروقة السلطة عموماً، يسود إجماع ناشئ حول ضرورة منح موسكو بعض الأراضي مقابل إرساء السلام.

لكن تطغى فكرة معاكسة داخل أوكرانيا، ففي رد مباشر على تعليقات كيسنجر، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن «من ينصحون أوكرانيا بتقديم التنازلات لروسيا لا يطّلعون على آراء الناس العاديين»، ويوافقه الرأي معظم الأوكرانيين، إذ يعارض 82% منهم التنازل عن أي جزء من الأراضي وفق استطلاع في مايو، من المنطقي ألا يوافق شعب تعرّض لهذا الهجوم الوحشي والظالم على مكافأة المعتدي والتنازل عن أراضيه.

زيلينسكي والشعب الأوكراني محقان: لن يؤدي الضغط على أوكرانيا للتفاوض على تسوية والتنازل عن جزءٍ من الأراضي إلى إرساء السلام والاستقرار في أوروبا على المدى الطويل، بل إن هذه المقاربة تكافئ روسيا على عدوانها العسكري على المدى القصير، وتطلق اضطرابات جديدة في قلب أوروبا، وتغفل عن جرائم الحرب الروسية، وقد تبدو تسوية السلام منطقية نظرياً، لكنها لن تنتج سلاماً دائماً وعملياً في هذه الحرب.

في المقام الأول، تطرح الاقتراحات التي تدعو أوكرانيا إلى التنازل عن أراضيها لروسيا مشكلة أخلاقية، فلا تشبه الحرب في أوكرانيا الصراعات الشائعة في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، حيث تنتقل إحدى المحافظات من بلد إلى آخر من دون أن يواجه معظم المقيمين فيها أي عواقب كارثية، بل تدخل حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خانة الإبادة الوطنية، فهو لم يُخْفِ رغبته في تدمير هوية أوكرانيا الثقافية والوطنية.

يجب أن يقيّم المعسكر الذي يدعو أوكرانيا إلى التنازل عواقب ما يحصل إذاً، فلن يعود ملايين الناس إلى منازلهم يوماً، وقد يتعرّض آلاف المدنيين للقتل أو التعذيب أو الاغتصاب، وقد يُحرَم الأولاد من أهاليهم، ويخسر الأوكرانيون هويتهم الوطنية ويرضخون لقوة عدائية، إذ يعني احتلال روسيا لأوكرانيا تقبّل هذه العواقب الأخلاقية الحتمية، ولن تنتهي الأعمال الوحشية إذا توقف القتال إذاً، بل إن التنازل عن الأراضي لإرساء السلام على طريقة موسكو يبرّر تلك التكتيكات ويطيل تداعياتها.

لكن لا تبدي دول غرب أوروبا استعدادها لتقديم ضمانات إلى أوكرانيا أكثر مما فعلت خلال قمة بوخارست في 2008، حين اعتبر الأعضاء انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو هدفاً طويل الأمد لكنهم لم يطلقوا مساراً عملياً لتحقيقه، كذلك، من المتوقع أن يُصِرّ الكرملين على أن تشمل أي تسوية محتملة التزام أوكرانيا بالتخلي عن عضوية الناتو مقابل تبنّي شكل من الحياد، فضلاً عن التعهد بعدم استضافة أي قواعد للقوات الأجنبية. في مطلق الأحوال، نادراً ما يدعم المعسكر الذي يدعو أوكرانيا إلى التنازل عن أراضيها التسوية التي يفضّلها عبر الإصرار على ضم البلد إلى «الناتو» أو منحه ضمانات أمنية قوية من الجانب الأميركي، ولا تبدو معظم الاقتراحات واقعية في ظل الإغفال عن هذه الجوانب.

في أفضل الأحوال، قد تصبح أوكرانيا المحتلة من روسيا ساحة لصراع «مجمّد» آخر، لكن يبقى هذا التوصيف خاطئاً ووهمياً أيضاً، إذ توحي الصراعات المجمّدة باستمرار الوضع المستقر، مع أن الواقع مختلف، وكما حصل مع إقليمَي «لوهانسك» و«دونيتسك»، حيث بدأ الغزو الأصلي، غالباً ما تتحول المناطق الرمادية إلى منصات لإطلاق اعتداءات متزايدة، فقد سمح الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، وهو صراع «مجمّد» آخر، بفرض حصار اقتصادي من جانب القوات الروسية، وقطع أهم الصادرات الزراعية عن أوكرانيا، وتأجيج أزمة غذاء عالمية، ولهذا السبب، قد يؤدي إنشاء مناطق رمادية أخرى في أوكرانيا إلى وقف القتال لفترة قصيرة، لكن تثبت تطورات التاريخ الحديث أن هذه المناطق تُمكّن الكرملين أيضاً من استعمال تلك الأراضي لزعزعة استقرار أوكرانيا وأوروبا وإعادة بناء قوته.

من الناحية الإيجابية، لا يُصِرّ الحل الدبلوماسي الذي اقترحته إيطاليا على تنازل أوكرانيا عن أراضيها بشكلٍ أحادي الجانب، ويشمل إطار العمل المؤلف من أربع نقاط وقف إطلاق النار ونزع أسلحة البلد، والتأكيد على حياد أوكرانيا ومنحها ضمانات أمنية، وإعلان استقلال شبه جزيرة القرم وإقليم «دونباس» على أن تبقى المنطقتان جزءاً من أوكرانيا، وسحب القوات الروسية تزامناً مع رفع العقوبات، وانطلاقاً من تصريحات الأوكرانيين العلنية خلال الأسابيع الأولى من الحرب، قد توافق كييف على شروط مماثلة إذا كان تحقيقها ممكناً.

لكن يبقى تنفيذ تلك البنود مستبعداً على أرض الواقع، فقد بدا وضع الكرملين جيداً في أوكرانيا في عام 2013، وكان البلد حينها حيادياً بشكلٍ رسمي، وبقيت علاقاته الأمنية محدودة مع الغرب، وكان فيكتور يانوكوفيتش الموالي لبوتين رئيس البلد، ولكن لم تكن تلك الظروف كافية بنظر بوتين، فأجبر يانوكوفيتش على رفض اتفاق تجاري بسيط مع الاتحاد الأوروبي، وسرّع بذلك إطلاق انتفاضة ديموقراطية، وخلال السنوات اللاحقة، زاد تعطّش بوتين لتحقيق أهداف أخرى، وكما كان متوقعاً، رفض وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الاقتراح الإيطالي.

وحتى لو أعلن الكرملين أنه وافق على إطار العمل الدبلوماسي كأساس للمفاوضات، فلا مفر من التشكيك بفرص نجاحه، إذ يشبه الاتفاق الإيطالي اتفاقيات «مينسك» التي خسرت فاعليتها الآن بعدما بدأت بوقف إطلاق النار، وشملت فرض سيطرة محلية على «دونباس»، وانتهت باسترجاع حدود أوكرانيا الشرقية الدولية، فلم تتعامل روسيا بجدّية مع «مينسك»، بل اعتبرتها مجرّد منصة لتكثيف مطالبها، لذا من المستبعد أن تُحسّن موسكو طريقة تعاملها مع أي اقتراح دبلوماسي آخر اليوم.

على كل من يثق حتى الآن باستعداد موسكو للتعامل بجدّية مع أُطُر العمل هذه أن يحلل تصرفاتها في سورية، حيث اعتبر الروس جميع الترتيبات بمنزلة فرصة لتحسين مكانتها ميدانياً، ولضمان نجاح أي نوع من المفاوضات، يجب أن ترغب جميع الأطراف في التوصل إلى حل، وتشارك في هذه العملية بصدق، وتلتزم بالتسوية الناجمة عنها، لكن بوتين أثبت عدم استعداده للالتزام بأي من هذه البنود حتى الآن، ومن المستبعد أن يغيّر سلوكه طالما يجد منفذاً لتحقيق الفوز في أوكرانيا.

يجب أن يتقبل صانعو السياسة الغربية حقيقة صعبة في أوكرانيا: من المتوقع أن تستمر الحرب لفترة طويلة، ففي هذه المرحلة من الصراع، يجب ألا يفكر الغرب بما تستطيع أوكرانيا تقديمه إلى روسيا أو كيفية الامتناع عن إهانة بوتين بقدر ما يُفترض أن يُركّز على ما يستطيع فعله لتحسين موقع أوكرانيا قدر الإمكان، وبرأي المعسكر الذي يدعو أوكرانيا إلى التنازل عن أراضيها بشكلٍ أحادي الجانب، لا تستطيع كييف أن تتفوق في هذه الحرب، وفي هذا السياق ذكرت افتتاحية في صحيفة «نيويورك تايمز» أن استرجاع الأراضي «ليس هدفاً واقعياً».

لكن يُفترض أن يفكر المعسكر الذي يشكك في قدرات أوكرانيا بالإنجازات التي حققها البلد حتى الآن، ومثلما كانت الفرضيات الأولية حول تحقيق انتصار روسي سريع مغلوطة، قد لا تتحقق التوقعات المرتبطة بحصول تقدّم روسي بطيء لكن متواصل، وقد تكون العمليات الهجومية الأوكرانية التي تهدف إلى استرجاع الأراضي في جنوب وشرق البلاد صعبة التنفيذ، لكن قد تعجز روسيا عن الحفاظ على جميع الأراضي التي احتلّتها، فلا أحد يستطيع توقّع مسار الحرب في المراحل اللاحقة، ويحمل كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين الأميركيين وجهات نظر مختلفة حول مجرى المعركة، وهم يعترفون بأنهم غير متأكدين من توقعاتهم. في النهاية، يبقى التشكيك أساساً هشاً لاتخاذ قرارات مصيرية قد تؤثر على حياة ملايين الناس، منها تشجيع أوكرانيا مثلاً على التخلي عن جزء من أراضيها أو الضغط عليها لوقف القتال. في هذه المرحلة من الصراع، لا شيء يبرر السماح لبوتين بتحقيق الانتصارات التي عجز عنها في ساحة المعركة عبر المفاوضات.

لن يكون النجاح العسكري الأوكراني حتمياً، لكنه ممكن، ولن يُعجَب بوتين بالخطابات الصارمة التي يلقيها القادة الغربيون، لكنه قد يحترم أي هزيمة ميدانية فيقتنع حينها بالتفاوض على تسوية قد تعتبرها حملته الدعائية انتصاراً له، وينتظر بوتين أن ينفد صبر الغرب خلال هذه الحرب الطويلة، فيستفيد من الوضع تزامناً مع ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وقد يكون الشعب الروسي معروفاً بقدرته على تحمّل المصاعب، لكنه تلقى وعداً بتنفيذ «عملية عسكرية خاصة» وسريعة بدل خوض صراع يمتد على سنوات ويُصعّب حياة الناس اليومية، ولا مفر من أن ينفد صبر الروس إذا خسرت روسيا في ساحة المعركة.

من مسؤولية الولايات المتحدة وأوروبا وأصدقاء أوكرانيا الآخرين أن يساعدوا كييف على التفوق بما يتماشى مع هذا الاحتمال، حيث يتعلق الهدف الأساسي اليوم بأن يكبح الغرب خصمه بدل أن يقنع أوكرانيا بالاستسلام أو يضغط عليها لتقديم التنازلات، ويعني ذلك إرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا وتكثيف الضغوط الاقتصادية على روسيا.

هذه الخطة لا تستبعد إجراء مفاوضات مثمرة، حتى أن زيلينسكي وحكومته أبديا استعدادهما للتفاوض في أول أسابيع الحرب أكثر من الكرملين، وقد يحين وقت المفاوضات قريباً، لكن تقضي أهم خطوة اليوم بتحسين موقع أوكرانيا، بانتظار حلول تلك المرحلة، كي تحصل على أفضل خيارات ممكنة.

طالما يبدي الأوكرانيون استعدادهم للقتال من أجل وطنهم وأوروبا ككل، فمن واجب الغرب أن يدعمهم، وقد يبدو السلام هدفاً جاذباً، لكن يعرف الأوكرانيون أنه لن يتحقق بأي ثمن، ويجب أن يصغي صانعو السياسة الغربية إليهم.

● ألينا بولياكوفا ودانيال فريد

Foreign Affairs *

back to top